22 Aug
22Aug


في بدايات العمر كانت التفاصيل الصغيرة كأنها أعمدة لا تَقوم الحياة إلا بها: كلمة جارحة، اختلاف عابر، خسارة طفيفة… تَتحول إلى عبءٍ يُرهق القلب ويُضاعف القلق.

كنتُ في زمنٍ مضى أستسلم لأبسط المنغّصات، فمشكلة صغيرة كفيلة بأن تحتلّ مساحة من الروح أكبر من حجمها الحقيقي، لينقلب يومي رأساً على عقب ويهجرني النوم.

ومع مرور الوقت تغيّر شيءٌ في داخلي من دون تخطيط مسبق، صرتُ ألاحظ أن اهتماماتي تميل تلقائياً نحو ما يبعدني عن الانزعاج، لي ولمن حولي، كأنني أبحث عن سلامٍ مشترك لا يخصّني وحدي.

 أسعى للتفاؤل وأحاول أن أتشبّث بخيطٍ منه متجاوزاً ما يكدّر الخاطر بسرعة لم أعهدها من قبل.لم تعد المشكلات تعني لي ما كانت تعنيه سابقاً، فقد انحسر ثقلها أمام يَقين جديد بأن للحياة أولويات أثمن من أن تُبدَّد في القلق.


الأولويات تَتغيّر من غير أن نشعر، وتَتبدّل مع الأيام كما تَتبدّل الفصول. من المؤكد أن التجارب والأيام القاسية والمواقف العميقة تراكمات تجعلنا نعرف أن ما نظنّه عظيماً هو في الحقيقة ظلّ عابر، وأن ما يَستحق أن يُعطى من مشاعرنا وطاقتنا أقل بكثير مما اعتدنا أن نُبدّده.

قد يكون لا بد هنا من وقفةٍ صغيرة، فالقارئ قد يَتخيّل هذه التراكمات فردية أو بسيطة، على الرغم من غِناها. 

غير أن ما شكّل وعينا لم يكن مجرد تفاصيل شخصية، بعض الظروف الاستثنائية مع حياة كاملة محفوفة بالحروب، فمن حرب إيران إلى حرب الكويت، ومن الحصار إلى الاحتلال، ومن سنوات الطائفية إلى د١١عش، سلسلة طويلة من صورٍ ومآسٍ لا يكاد يخلو منها وجدان أي عراقي. 

لقد تراكمت هذه الأحداث في الذاكرة الجمعية، حتى باتت التجربة الشخصية مشتبكة دوماً مع سياقٍ عام من الألم والصمود، لتصوغ وعياً مختلفاً يعلّمنا أن أثقل ما نحمله ليس همّنا الفردي بل هو ظلّ لبلد عاش في قلب العاصفة.


أمّا التحوّل الفكري فليس بعيداً عن تغيّر الأولويات، إذ طالما رافق الفكر الإنساني في مساره الطويل كما ترافق التجربةُ الفردَ في حياته اليومية. 

كثير من المفكرين الذين قدّموا نظريات كبرى أو رؤى سياسية واجتماعية عادوا بعد سنوات ليعيدوا النظر فيها، إمّا بتعديل أو نقض أو إعادة صياغة. 

وكأن التجربة تفرض على الفكر أولويات جديدة كما تفرض على الإنسان مساراً مختلفاً في العيش، والأمثلة كثيرة، ولعل أقربها إلينا الجواهري في حياته، والوردي في أطروحاته، وغيرهما من أعلام الفكر والثقافة، فضلًا عمّا حولنا من تجارب حيّة تكشف أن المراجعة والتبدّل لا تنفصل عن مسيرة النضج الإنساني.


قد يكون ذلك نوعاً من النضج أو وضوحاً في الرؤية لدى البعض وقد يكون العكس لدى آخرين، هنا تختلف المسارات، لكن الأكيد لديّ أن راحة البال باتت أثمن من الانتصار في جدال، ويغدو الحفاظ على صحّة الجسد أهم من الانشغال بصغائر الأمور، ويصبح بناء علاقة متينة مع من يستحق أن نحب أقدس من ملاحقة هفواتهم اليومية.

الإنسان الناضج لا يهرب من الحياة، إنما يضع كلاً في مكانه: المشكلة في حجمها الطبيعي، والفرح في مركزه الحقيقي.


هذا التغيّر قد لا يحصل فجأة ولا يحصل مع الجميع، إنما هو نتاج تراكم من الخيبات والنجاحات معاً، ترافق مسار التفكير واتجاهاته. التجربة تدرّبنا على التخفف من ثقل التفاصيل، وهي ذاتها قد تجعلنا نخسر أشخاصاً أو فرصاً، فندرك أن البقاء أسلم من الركض وراء ما يتبدّد.

 فالأولويات الجديدة تترك أثرها في العلاقات ويصبح الإنسان أكثر ميلاً للتسامح، أكثر تفهماً لزلّات الآخرين، وأقل انجرافاً وراء ردود الفعل المتسرعة، لوضوح بوصلة الداخل وحفاظه على الروح بعيداً عن كسب مواقف عابرة.وقد يكون هذا الوضوح سبباً في تكَوّن القدرة على الفرز، فنمنح قلوبنا ما تستحق، ونمرّ على ما سواه مرور الكرام.


والمكسب الأهم والأعظم من ثمار هذا التحوّل بصورته "الإيجابية" هو التفاؤل : أن نرى في كل يوم فرصةً جديدة، وفي كل تفصيل جمالاً يمكن أن نتعلّم منه شيئاً، حتى المشكلات نفسها تغدو دروساً لا نهايات مأساوية. 

بهذا المعنى يصبح التفاؤل عادة والهدوء خياراً والطمأنينة أعظم الغنى. وندركُ حينها أن الحياة أقصر من أن تُستهلك في ما لا يستحق وأن أجمل ما يمكن أن نهبه لأنفسنا ولمن حولنا هو راحة البال.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن