31 Jul
31Jul



لا تخطئُ العينُ مشهداً يتكرّر كلَّ يومٍ تقريباً، شخصٌ يتحدثُ بنبرةٍ ساخرةٍ عن مسؤولٍ ما، يُحمّله أوزارَ كلِّ مشكلة، ويصبّ عليه جامَ غضبه في المجالس،  ثم لا تلبثُ أن تراه في مناسبةٍ عامّة وقد انفرجت أساريره، وتقدّم الصفوفَ للسلامِ على ذلك المسؤول، مزاحماً الآخرين لأجل التقاطِ صورة أو حضن أو مجاملةٍ تليقُ بـ”جلالةِ قدره”.


مشهدٌ يدعو إلى القلق، فهو لا يتعلّق بشخصٍ بقدرِ ما هو مظهرٌ متكرّر.المجتمعاتُ الحيّةُ لا يمكن أن تُبنى على المواقفِ المرتبكة ولا على العلاقةِ المتقلّبة مع الرموزِ والسلطة.


لذا أطلقتُ على هذه الحالة – تجاوزاً – “حمّى المسؤول”، وهي انعكاسٌ لصورةٍ أوسعَ في الوعي الجمعي، عندما تُصابُ المجتمعاتُ بحالةٍ من التوتّرِ والتناقض إزاءَ موقعِ السلطة: تنتقده بشدّة ثم تسعى له بشغف، تهزأ منه في السرّ ثم تُبجّله في العلن.
هذه الظاهرة لها جذور، جزءٌ منها يعود إلى إرثٍ طويلٍ من هيبةِ المنصبِ التي تلبّست بها المجتمعاتُ تحتَ أنظمةٍ سلطويةٍ متعاقبة رسّختْ في اللاوعيِ الجمعي رهبةً من كرسيِّ المسؤول، مهما كان حجمُ سلطته الفعلية.


وجزءٌ آخر يتغذّى من غيابِ التربيةِ المدنية وتضعضُعِ مفهومِ المواطنة وفهمِ السلطة بالشخصنة بعيداً عن المؤسّسات.


في مشهد “حمّى المسؤول”، يتجلّى التطرّفُ بأوضحِ صوره: فمن جهةٍ هناك نقدٌ غوغائيٌّ يفتقرُ إلى العدلِ والمنهج، ومن جهةٍ أخرى مديحٌ مبالغٌ فيه لا يُفرّق بين الإنجازِ والموقع، بين الكفاءةِ واللقب. كلا الوجهين يعبّران عن خللٍ في العلاقةِ مع السلطة وعن هشاشةٍ في وعيِ الفردِ بدوره وحقّه وحدودِ احترامه.


ولا يمكن فصلُ هذه الحمى عن السياقِ الأوسع: سياقٌ يجعلُ القربَ من المسؤولِ مغنماً، لا مسؤولية ويوحي للناسِ أن في كلِّ مسؤول “فرصة”، لا “خدمة”.


وهكذا تتشوّه البوصلة وتضيع الحدودُ بين النقدِ المسؤولِ والنفاقِ الاجتماعي.فتصبح “الفُرجةُ على المسؤول” حدثاً، ولقاؤه “مكسباً” والكلمةُ الطيبةُ له “استثماراً”، ولو كانت بالأمس شتيمةً في زاويةِ المجلس.


وتشارك وسائلُ الإعلامِ في ترسيخِ هذه الحُمّى، من حيث تدري أو لا تدري، حين تضعُ كلَّ مسؤولٍ تحتَ الأضواءِ في كلِّ تحرّك وتربطُ صورتَه بالمناسبة، لا بفعله.
كما أن شبكاتِ التواصلِ الاجتماعي، بما تتيحه من مساحةٍ للعاطفةِ والانفعال، ساهمتْ في تزايدِ مظاهرِ “الحمّى” هذه، عبر حملاتِ مديحٍ مفاجئة أو هجوماتٍ موسميةٍ تنتهي عندَ أولِ صورةٍ أو مصافحة.


تكمن خطورةُ “حمّى المسؤول” في أثرها العميقِ على بنيةِ المجتمعِ السياسيِّ والأخلاقيّ.فهي تُضعفُ الرأيَ العام وتُكرّسُ الازدواجية وتُعيقُ نموَّ ثقافةِ المساءلة إلى الإلغاءِ السلبي.


العلاقةُ الصحيّةُ مع المسؤول تبدأ من مبدأ: أن المنصبَ لا يمنحُ القداسة، وأن المسؤوليةَ لا تعني العصمة.الاحترامُ واجبٌ للسلطةِ المعنويةِ للمسؤولِ وما يُمثّله، ويعزز ذلك جدارة  صاحبُه وحسن ادارته والنقدُ ضرورة ما دام نابعاً من حُسنِ قصدٍ ورغبةٍ في التقويم.


وبين الطرفين، تتشكّلُ علاقةٌ متوازنة، لا مكانَ فيها للمجاملاتِ الثقيلة ولا للتطاولِ الجاهل.


المطلوب اليوم ليس أن نُبالغَ في الوقوفِ بوجهِ المسؤول ولا أن نذوبَ عند لقائه، بقدر ما نُعيدُ تشكيلَ وعينا تجاهه:أن نراه في موقعه كموظف في الشأنِ العام، لا كمعبودٍ أو شيطان،وأن نُربّي أبناءنا على مبدأ أن عظمةَ المجتمعِ تُقاسُ بقدرةِ أفراده على قول “نعم” عن بصيرة، و”لا” عن وعي.


إنّ المجتمعاتِ التي تنجو من ارتباكِ العلاقةِ مع السلطة، هي تلك التي تُعيدُ ترتيبَ قيمِها على مهل وتُمارسُ النقدَ بحكمة والاحترامَ بمسؤولية، وتبني رجالَها على مواقفَ ثابتة، لا على حرارةِ اللحظة.
فلا حمّى تدوم،ولا منصبَ يبقى.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن