د. محمد القريشي
في حوار مؤثر حول الذاكرة السياسية، يروي الدبلوماسي الجزائري المخضرم الأخضر الإبراهيمي واحدة من أكثر محطات تجربته خطورة و حساسية، حين كُلّف من قبل الأمم المتحدة بالوساطة بين إيران وحركة طالبان في أواخر التسعينيات، في أعقاب أزمة كادت أن تشعل حربًا واسعة النطاق.
قامت طالبان في تلك الفترة، بقتل تسعة دبلوماسيين إيرانيين واعتقال 120 آخرين، وحشدت إيران كرد فعل على ذلك، ما يقارب مئتي ألف جندي على الحدود مع أفغانستان، في استعداد فعلي لاجتياح عسكري. كان خطر الحرب وشيكًا، وكانت مهمة الوساطة محفوفة بالتعقيد، سياسيًا وثقافيًا وعقائديًا.
يقول الإبراهيمي:«تفاوضت حينها مع الملا عمر، ونجحت الوساطة.
ولسنوات طويلة، كان الجميع يظن أنني صاحب هذا النجاح. لكن الحقيقة أنني لم أكن كذلك، بل الفضل يعود إلى المترجم الأفغاني الشاب الذي رافق الملا عمر خلال اللقاءات.»
فبعد سنوات من تلك المهمة، التقى صديق أميركي يعمل في الأمم المتحدة بذلك المترجم الشاب. ينقل الإبراهيمي عن صديقه أنه قال له:
«المترجم الشاب يبلّغك السلام… ويعتذر.»وحين سأل الإبراهيمي عن سبب اعتذار المترجم وهو يقوم بعمله الطبيعي، جاءه جواب صديقه الاميركي بشكل مثير :«قال لي الشاب إنه لم يكن أمينًا تمامًا في الترجمة خلال اللقاء بينك وبين الملا عمر. فلو نقل كلامك بدقة، لفشلت الوساطة بسبب طبيعة مزاج البشتون الحاد، الذي لا تعرفه. إضافة إلى خصوصية الملا عمر، الذي لم يخرج من بيئته القبلية ولم يكن عارفا للعالم الخارجي.. قد يؤدي فهمه لبعض عبارات الإبراهيمي إلى الغضب وقد تتوقف المهمة وتشتعل الحرب.
وكذلك، لو نقل بدقة ما قاله الملا عمر لك، لربما أثارك ذلك وأفشل اللقاء.لذلك، اضطر لتلطيف العبارات، وتحويل الجُمَل إلى ما يناسب اللحظة، حتى تمر الوساطة بسلام.»يتأمل الإبراهيمي تلك القصة بتواضع نادر، ويقول:«منذ ذلك الحين، لم أعد أتحدث في محاضراتي الجامعية ولقاءاتي عن نجاحي في تلك الوساطة، بل عن نجاح ذلك المترجم فقط.»
لم تعد تمثل هذه القصة مجرّد سرد لذاكرة مرحلة، بل درس بليغ في فن السياسة وفهم البشر وتواضع رجل الدولة.
فقد اعتدنا أن نُرجع الفضل في صناعة السلام إلى كبار الدبلوماسيين ومهندسي الاتفاقات، لكننا نغفل في بعض الأحيان عن ان يكون النجاح قد تحقق على يد شخص مجهول، يقف خلف الكواليس، يُتقن الحوار لا بصيغته الميكانيكية المجردة، بل بالمعنى الذي يحمله والأثر الذي يصنعه والخلطة الثقافية والقيمية التي يؤلفها في لحظة الفعل، بشكل يصعب أن تُدرك في قاعات المؤتمرات أو مكاتب الأمم المتحدة. لم يكن المترجم اميناً في نقله للعبارات من الناحية التقنية ولكنه كان اميناً ومخلصا لقضيته وواثقا من نفسه وناظرا إلى الأهداف.
من جهة اخرى، فقد قدم الإبراهيمي في شهادته دراسا حول عظمة السياسي والخبير والعالم ، حين اقتنص هذه اللحظة الإنسانية وميز بطلها الحقيقي ووضعهما في قلب التاريخ : " لم أصنع أنا النجاح بل صنعه هذا الشاب المترجم".
فالكثير من القادة والعاملين في مجالات مختلفة، يختزلون النجاح في أسمائهم وينسجون حول أنفسهم هالات من البطولة والتفوق ويتجاهلون من صنع حولهم.
وتكمن عظمة الأخضر الإبراهيمي في شجاعته باسقاط المجد عن نفسه، ووضعه على رأس "شاب مجهول" ، لأنه أدرك أن القيادة ليست في تصدر صورة المجد دائما وبكل ثمن ، بل في التراجع عنها حين تكون "الأخلاق" هي المجد الدائم. والقيادة كذلك، لا تقاس بالمناصب العليا بل بالمنجزات النوعية. التاريخ يُصنع هكذا!