أ.م. د محمد مرعي الخزاعي
مقدمة :
لم تعد العلاقات الدولية تُدار بالبارود، بل بالأرقام. في زمنٍ يتبدّل فيه ميزان القوة العالمي، صارت الأسواق المالية أشبه بميدان معركة خفي، تتحرّك فيه العملات بدل الجيوش، وتُطلق فيه البيانات الاقتصادية بدل الرصاص.
القرن الحادي والعشرون لم يعد قرن الحروب المسلحة، بل قرن الحروب النقدية التي تُعيد رسم خريطة النفوذ العالمي. وفي قلب هذا الصراع، يقف الدولار الأمريكي في مواجهة خصمٍ ذهبيٍّ جديد: اليوان الصيني المدعوم بجبال من الذهب المكدَّس في خزائن بكين.
🦅 واشنطن: الدفاع عن العرش الورقي منذ عام 1971، حين أعلن الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون فك ارتباط الدولار بالذهب، تحوّل الدولار إلى رمز للهيمنة الأمريكية. لم يعد يُغطّى بالمعدن النفيس، بل بقوة الثقة والديون، حتى صار عملة الأرض كلها، وأصبح امتلاك الدولار يعني امتلاك النفوذ. لكن العقد الأخير كشف هشاشة تلك الهيمنة، فأوراق الدولار لم تعد وحدها تملك السحر القديم، والعالم بدأ يبحث عن بدائل تحميه من تقلبات السياسة الأمريكية واستخدام واشنطن لسلاح العقوبات كسيف مسلط على رقاب خصومها.
واشنطن تدرك أن أي تهديد لمكانة الدولار هو تهديد مباشر لموقعها القيادي، لذلك تنظر بعين القلق — بل الخوف — إلى ما تفعله الصين في صمت.
🐉 بكين: طريق الحرير الذهبي منذ سنوات، والصين تشتري الذهب بلا ضجيج. طنًّا بعد آخر، تكدّس المعدن الأصفر في خزائن بنكها المركزي، وتخفض في الوقت نفسه استثماراتها في سندات الخزانة الأمريكية.
وكأنها تُبدّل ببطء مفاتيح اللعبة من “الدَّين الأمريكي” إلى “القيمة الحقيقية”.
تدرك بكين أن الحرب المقبلة ليست عسكرية، بل حرب ثقة: من يملك العملة التي يثق بها العالم، يمتلك القرار الدولي. لذلك تعمل على تحويل اليوان إلى عملة مدعومة جزئيًا بالذهب، وتُشجع شركاءها في آسيا وأفريقيا والشرق الأوسط على تسعير تجارتهم باليوان بدل الدولار. إنها إزالة الدولرة بالصمت الذهبي.
ترامب ولعبة الخوف الذهبي في خضم هذه التحولات، أدرك الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن “لعبة الذهب الصينية” ليست مجرد مضاربة مالية، بل مشروع استراتيجي لإعادة صياغة النظام النقدي العالمي. حين بدأت الصين توسّع احتياطاتها من الذهب وتنسحب تدريجيًا من السندات الأمريكية، دقّت الأجراس في واشنطن. تدفّقت التقارير الاستخبارية إلى البيت الأبيض، تحذّر من أن بكين تمهّد لمرحلة “ما بعد الدولار”.
ترامب الذي يقرأ الأرقام كما يقرأ عناوين الصحف شعر بأن أمريكا قد تخسر حربًا من دون أن تُطلق رصاصة، فقرّر التحرك بسرعة. لقاؤه الأخير مع الرئيس الصيني شي جين بينغ في بوسان لم يكن مجاملة دبلوماسية، بل محاولة استباق انهيار محتمل في ميزان القوى النقدي. ذهب ترامب إلى اللقاء بشغفٍ وقلق، وأعلن من تلقاء نفسه أنه كان “لقاءً ناجحًا بنسبة 12 من 10”، فيما اكتفى شي بالصمت المحسوب. ترامب، مدفوعًا بخوفه من “الذهب الصيني”، أبدى ليونة غير معهودة: خفض الرسوم الجمركية على الصادرات الصينية، وتحدث عن “مرحلة جديدة من التعاون الاقتصادي”.
لكنه كان في داخله يحاول شراء الوقت، قبل أن تشتري الصين العالم بالذهب.
🌐 الاقتصاد… الوجه الحقيقي للعلاقات الدولية لقد أصبحت المعادلات الاقتصادية اللغة الجديدة للدبلوماسية. تراجع دور المدفع والدبابة، وصعد دور البورصة والبنك المركزي. من يمتلك احتياطي الذهب، أو يسيطر على أنظمة التحويل المالي، يملك النفوذ السياسي ذاته الذي كانت تمنحه الحروب يومًا.
الصين تعرف هذا، وأمريكا تخشاه. ومن هنا، فإن الصراع بين واشنطن وبكين لم يعد حول التجارة فحسب، بل حول من يكتب القواعد الجديدة للاقتصاد العالمي. الولايات المتحدة تدافع عن “إمبراطوريتها الورقية” بالدولار، بينما تبني الصين إمبراطوريتها المعدنية بالذهب واليوان الرقمي.
ما بعد اللقاء: حرب باردة بلون جديد يبدو أن اللقاء في بوسان لم يُنهِ الخلاف، بل رسم حدود المرحلة المقبلة. فالمصافحات أمام الكاميرات تخفي خلفها حربًا مالية باردة بدأت بالفعل.
قد لا تُغلق المصانع، ولا تُطلق المدافع، لكن البنوك المركزية ستواصل القتال بصمت من يطبع، ومن يشتري، ومن يملك الثقة. وفي هذا المشهد، يُدرك ترامب أن الصراع مع الصين لم يعد تجاريًا فقط، بل معركة بقاء على عرش النظام المالي الدولي، وأن الذهب الذي تتكدسه بكين ليس مجرد احتياطي، بل قنبلة صامتة تنتظر لحظة الانفجار.
خاتمة:
حين يصبح الاقتصاد سياسةً والعلاقات حربًا العلاقات الدولية الحديثة لم تعد تُدار في غرف السياسة، بل في أروقة الاقتصاد. العملة أصبحت سلاحًا، والذهب درعًا، والمصارف ساحات معارك. إننا نعيش حربًا باردة بلا نار، تتحدّث لغتها الأسواق، وتُكتب فصولها بأرقام الفائدة وأسعار الذهب. ربما لم تنتصر الصين بعد، ولم تنهزم أمريكا بعد، لكن العالم بات يعيش في زمنٍ جديد؛ زمنٍ فيه الاقتصاد هو السياسة، وفيه الذهب هو الدبلوماسية، وفيه الخوف من الانهيار المالي أقوى من الخوف من الحرب النووية