دور العقل في صناعة القرار… من مراكز الفكر إلى واقع السياسة
دور العقل في صناعة القرار… من مراكز الفكر إلى واقع السياسة
11 Dec
11Dec
العقل البشري يمتلك قدرة استثنائية على استباق الأحداث الكبرى، لا بوصفه وعاءً للذاكرة فحسب، بل بوصفه منظومة معقدة للتخطيط وتحليل الأنماط وصناعة التوقعات وهذه الآليـة الدماغية العميقة التي تعمل في مراكز التنظيم والتنبؤ، هي التي مكنت الإنسان عبر التاريخ من اجتياز الأزمات وفهم التحولات وصناعة فرص جديدة في أكثر اللحظات حرجاً. وحين يصبح العقل شريكاً في صناعة القرار بمعرفته وأدواته وتحليله، تتغير نتائج السياسات، وتقترب من الواقعية والنضج والاستدامة.
ومتى ما أتيح لمراكز الفكر والدراسات أن تعد الخطط وترسم المسارات، جاءت القرارات أكثر حكمة، وأوسع أثراً، وأبعد نظراً على المديين القريب والبعيد. لقد أظهرت التجارب العالمية أن كبرى الدول لم تتقدم بالخطاب ولا بالشعارات، بل بوجود مؤسسات بحثية تحول الواقع إلى أرقام، والتحديات إلى حلول، والاختلافات إلى فرص للحوار وإعادة البناء. وفي أوروبا والولايات المتحدة وشرق آسيا، أدى حضور هذه المؤسسات إلى انخفاض ملحوظ في مستويات العنف، وارتفاع في جودة التخطيط العام، وتحسن ملموس في فاعلية السياسات الاجتماعية والاقتصادية.
وما كانت هذه النتائج لتتحقق لولا اعتماد تلك الدول على مراكز تفكير تراعي خصوصية بيئتها وتقرأ واقعها قراءة دقيقة تشبهها ولا تكرر غيرها. وفي ضوء هذه الدروس، تبرز أهمية الجلسات الحوارية التي يقيمها ملتقى بحر العلوم للحوار، الذي يحاول أن يضع العقل والخبرة في قلب النقاش العام العراقي. فالملتقى لا يكتفي بطرح الأسئلة، بل يسعى إلى بناء مساحة نقدية يلتقي فيها الباحثون والمتخصصون وصناع القرار لوضع القضايا في سياقاتها الحقيقية بعيداً عن ضجيج اللحظة وردود الأفعال. ويعمل الملتقى وفق منهج علمي يبدا بالتشخيص ثم التحلييلفي ضوء المعطيات الواقعية،وصولاً إلى صياغة ورقة سياسات قابلة للتطبيق.
وتترجم هذه الجهود، كما لاحظنا، إلى مفردات دراسية في مناهج طلبة الدراسات العليا، وأطاريح علمية تتناول القضايا برؤية عراقية، وإجراءات عملية قابلة للتنفيذ ضمن مشروعات تمت بالفعل.
وهذا النهج يجعله مختلفاً عن الأنماط التقليدية وتكمن قيمة هذه الملتقيات في منهجها و مخرجاتها: منهج الإصغاء للرأي المختلف، وتحليل المعطيات بوعي، والبحث في الجذور لا في السطح، وتشجيع الحوار القائم على المعرفة لا على الانفعال وهو مسار، على حاجته الدائمة للتطوير، يمثل خطوة مهمة نحو عقلنة القرار العراقي، وفتح الباب أمام سياسات أكثر نضجاً وقدرة على خدمة الإنسان أولاً إن بناء مستقبل أكثر اتزاناً يحتاج إلى أن يُستثمر العقل، بوصفه أداة فهم وتوقع وتنظيم، في صناعة السياسات لا في توصيف الواقع فحسب.
والمبادرات الحوارية مثل ملتقى بحر العلوم ليسست فعاليات ثقافية عابرة، بل محاولة جادة لوضع المعرفة في مكانها الطبيعي شريكاً في القرار لا تعليقاً على نتائجه. فصوت العقل، في النهاية، هو الذي يصنع الطريق ويمهد لسياسات تشبه الإنسان ،وتخدم حاجاته وتفتح نافذة لواقع أكثر وضوحا ونضجاً.