حسين العادلي
•الأزمات العميقة والدائمة والمتجددة، هي السمة الأبرز لمسار ومسيرة الدولة العراقية منذ تأسيسها 1921م وإلى اليوم. لقد تمظهرت هذه الأزمات كإنقلابات ودكتاتوريات وحروباً، ومآزق هوية وولاء وسيادة، ومعضلات تعايش وتنمية وحداثة، إضافة إلى الإحتلال والتدّويل والاستلاب. كل هذه الأزمات تشير إلى أزمة وجودية تتصل برؤى وقواعد التأسيس للدولة، وتتصل بمناهج السياسة والإدارة للحكم.
•لم يمثل التاسع من نيسان 2003م في التاريخ العراقي إسقاطاً لنظام سياسي ليُستبدل بنظام سياسي آخر وتنتهي القصة، بل هو لحظة تاريخية كاشفة لأزمة متجذّرة ومتجددة في العراق الحديث كدولة وكأنظمة تعاقبت على حكم الدولة.
•زلزال 2003م كان لحظة حقيقة كاشفة لفشل وانهدام الدولة العراقية كنموذج دولة، وذاك بسبب سوء أنظمتها وتخلف سياساتها وانقسام أمّتها وفشل مدارسها السياسية، وبسبب عدم إنجاز كينونتها وخصوصيتها ومصالحها كدولة، وبسبب تماهيها الأبله في فرضيات وملفات المنطقة، وبسبب فهمها وتموضعها الخاطئ في المعادلات الجيوسياسية والاستراتيجية،.. فأتت لحظة 2003م لتكشف عمق الإنهدام في طبيعة وسياسة وتموضع الدولة على اختلاف عهودها وأطوارها.
•الأطوار التاريخية للدولة العراقية (وبالذات خلال عقود حكم البعث الدكتاتوري الطائفي والذي أنهى مسمّى الدولة بالإستبداد المطلق والتمييز الممنهج والأمن المتوحش والحروب الدائمة) كانت أطوار حكم سلطوي استبدادي تمييزي متلبّس بالدولة. فالدولة العراقية منذ تأسيسها الحديث لم تستند -في العمق- الى فكرة دولة المواطنة الحديثة ووظائفها، ولم تنتج جوهرها الوطني المدني المؤسسي القائم على وفق مسطرة الحكم الرشيد وإرادة الأمّة، ولم تنجز شروط تكاملها الوحدوي والتنموي والسيادي على وفق المصلحة والخصوصية العراقية، بل كانت دولة تتعاقب على حكمها وإدارتها سلطات محتكرة للسلطة وتمييزية.
لذا يمكن القول أنَّ للدولة العراقية أزماناً وليس تاريخاً، أزمنة مستنسخة من تجارب حكم محتكَر وبدائي ومغامِر، وليس تأريخ دولة متراكم من تجارب حكم وطني عادل ورشيد وعقلاني.
•عدم إنجاز الدولة على وفق شروطها البنيوية أدى الى تحوّلها إلى مشروع سلطة مجردة متمردة ومحتالة على بنى ووظائف الدولة، وأدى إلى انتاج دولة اللا أمّة، وأمّة اللا دولة،.. أمّة ودولة العصبيات والعصبويات والعصابات المدمرة للمجتمع والمدنسة للدولة والخاطفة للوطن.
•بغض النظر عن النتائج التي ترتبت على طريقة إسقاط نظام البعث في 2003م على يد الفاعل الأميركي، وبغض النظر عن التركة الهائلة للإستبداد والدمار الي أنتجه النظام البعثي، وبغض النظر عن طبيعة الممانعات والتحديات الداخلية والإقليمية والدولية الهائلة المتأتية من الدول المتضررة من التغيير والتي نقلت معاركها للداخل العراقي، وبغض النظر عما أفرزته طريقة الإدارة لملفات الإنهيار من إرهاب وجريمة وفوضى ألقت بظلالها على البديل المراد انتاجه.. إلاّ أنّ ما تم إنتاجه بعد تغيير النظام البعثي يمكن إيجازه بالعبارة التالية:
*نجاح في تأسيس الدولة وفشل في إدارة الحكم.*
•تتحمّل الأهم الأغلب من قوى العملية السياسية مسوؤلية الفشل في إدارة الحكم، والفشل بإقامة نظام سياسي على ضوء أسس التأسيس الذي قال به دستور 2005م، عندما اعتمدت -القوى السياسية- معادلات وأعراف عمل سياسي جاء أغلبه خارج مقومات التأسيس الوطني الدستوري والقانوني المسؤول والمنضبط والمتكيف مع التحوّلات الجوهرية في مسيرة الدولة.
(وكمثال على ذلك، قال الدستور بالأغلبية البرلمانية في إنتاج الحكم، بينما اعتمدت القوى السياسية التوافق المكوّناتي الحزبي في تأسيس وإدارة الحكومات).
•التأسيس المقبول للدولة والقابل للتطوّر التدريجي وفق تطوّر البنية المجتمعية والسياسية والتنموية للدولة، صاحبه فشل واضح في الرؤية والإدارة للحكم الذي تبنته العملية السياسية والذي قام على أساس من معادلة:
المكوّن + سلطة المكوّن + المحاصصة الحزبية = النظام التوافقي المكوّناتي الحزبي للدولة.
•نظام التوافق المكوّناتي القائم على الهويات الفرعية والحزب الممثل للهويات والمصالح الإثنية الطائفية، والذي جاء مخالفاً للدستور، يعتبر حجر الأساس في فشل إدارة الحكم. فقد أدى الاعتراف السيادي بالهويات الفرعية إلى اعتبار الدولة (دولة مكوّنات)، فقاد هذا بالضرورة إلى تعدد الكيانات على عدد المكوّنات (سلطة المكوّنات)، فأنتج صراع المكوّنات في الدولة وعلى الدولة (صراع السلطة/الثروة)، وأنتج كذلك ابتلاع حزبي للدولة (باعتبار الحزب هو الممثل عن المكوّن في الدولة) فنتج لدينا دولة أحزاب تحاصصت الدولة، فأفقد الدولة نواتها الصلبة ووحدة سلطاتها وأمّتها. إنَّ أغلب مظاهر الفوضى والتشظي والفساد والاستلاب إنما هي نتاج فكرة (الحكم المكوّناتي) الذي أنتج نواة حكم وإدارة رخوة تنافسية ومنقسمة على نفسها، والتي لم تستطع - ولن تستطيع-أن تكون نواة صلبة للدولة ورافعة لها. وهو تأسيس وإدارة للحكم مخالف لقواعد التأسيس الذي جاء به دستور 2005م.
•لا يمكن عزل الفشل بإدارة الحكم عن الفعل النوعي المضاد (والذي غالباً ما كان دموياً وإرهابياً وسلبياً) للقوى المتضررة من إسقاط البعث –داخلياً وخارجياً- والذي صعّب عمليات التحوّل في بنية الدولة ومناهج الحكم، ولا يمكن عزل الفشل بعد 2003م عن الإرث البعثي الكارثي للدولة، وعن مديات الصراع الجيوسياسي الذي أسقط العراق في منخفض مصالح الدول وأطماع الأمم،.. هذا صحيح، لكن الصحيح أيضاً أنّ الفشل بإدارة الحكم يعود إلى المناهج والسياسات التي أُعتمدتها القوى السياسية لإدارة الحكم والذي لخّصته معادلة المكوّنات وجسّده نظام المحاصصة، ويعود كذلك إلى البدائية وافتقاد الطهورية بممارسة المسؤوليات من قبل أغلب القوى السياسية التي تحوّلت إلى دكاكين مصالح واعتمدت الزبائنية السياسية كثقافة عمل،.. الأمر الذي أخلَّ بمنظومة الحكم، وبالنتيجة أخلَّ بالدولة كبنية مجتمعية واقتصادية وسيادية.
•أزمة العراق اليوم أزمة منظومة حكم ونظام الحكم جزء منها، وهي أزمة تتطلب العودة إلى قواعد التأسيس الدستوري للدولة قبل كل شيء، وإلى حاكمية حقيقية للمؤسسات الدستورية وتمكين سلطاتها وفرض إرادتها، وإلى قوى سياسية بمستوى التحوّل البنيوي للدولة وعلى مستوى مسؤولية إدارة الحكم.
وتتطلب كذلك وعلى وجه السرعة إصلاحات جوهرية حازمة ومؤلمة لسياسات النظام المالي والإقتصادي والثقافي لمنظومة الحكم ككل، وإلاّ سيعجز النظام عن إدارة الدولة.
•التحوّل بطبيعة منظومة الحكم وبمسار الحكم غدا ضرورة، والمطلوب هو تحوّل نوعي جاد وحقيقي وعلى أساس من دستورية النظام وفاعلية الحكم وحاكمية المؤسسات والإصلاح والابتكار والتحديث.
إنَّ الحكم الدستوري الفعّال - والمُلزم لأمّة الدولة وقواها السياسية-هو ما يحتاجه العراق اليوم لإنقاذ الدولة، وإلاّ ستنهار الدولة بعجز المنظومة وفشل النظام وانقسام الأمّة، وعندها سيُفتح الباب على مصرعيه لمآلات أخرى للدولة بحكم الضرورة.