05A2EDD17376135DD5B5E7216D8C98DB
11 Jun
11Jun


أ دحسين عبيد شراد

في زمنٍ تُصاغ فيه المفاهيم من جديد، وتُكتب النصوص بلغة الصورة والبرمجة والتفاعل، يخرج علينا من يصرُّ على القراءة بمنظار قديم، كأنَّ الزمن لم يتقدَّم قيد سطر، وكأنَّ النصوص الرقمية لا تزال تعاني من عقدة النسب إلى الورق.


لقد استحالت ما يُسمّى بـ”المقاربة” النقدية إلى تمرين ذهنيّ يُراد له أن يتّصل بفضاء افتراضي لا يُدرَك إلا من خلال أدوات تنتمي إلى زمن الورق. فهل نحن إزاء مقاربة ذهنية لواقع افتراضي؟ أم أنّ ما يجري هو تقمّص الذهنيّ لشكل الافتراضي دون جوهره؟بل هل المقاربة اتصالٌ معرفيّ أم انتحال أسلوبيّ؟في المحصلة، تبدو هذه المحاولات أشبه بزراعة شجرة في أرضٍ افتراضية… لا تُسقى إلا بالعبارات المستهلكة!


تُقدَّم هذه “التمثيلات النقدية” (وهو مصطلح أقرب للواقع من “مقاربة”) بوصفها انفتاحًا على “الفضاء الرقمي”، لكنها في جوهرها لا تفعل أكثر من اجترار أدوات تقليدية، تقيس النصوص الرقمية بمسطرةٍ ورقيةٍ، وتزن تفاعلها الديناميكي بميزان لغوي جامد، كما لو كانت صفحة منشورة على الفيسبوك امتدادًا باهتًا لديوانٍ مهملٍ في مكتبة مدرسية.


ولعل المفارقة الساخرة أن النصوص الافتراضية في حد ذاتها تمتلك من التلقائية، والتشظي، والارتجال، ما لا يقبل “المقاربة” بمنهجٍ مسطَّر. فإذا بتلك الكتابات تُقرأ كأنها فصلٌ ناقص من كتابٍ مطبوع، لا حدثًا تواصليًا يولد ويموت في ضوء الشاشة وتحت أصابع الجماهير.


مقاربة أم مصادرة؟

ما يُسمى “مقاربة نقدية” لا يبدو في الواقع أكثر من مصادرة فكرية على المطلوب؛ إذ تسبق الفكرةُ النصَّ، وتُجَرُّ الأمثلة جَرًّا إلى قوالب جاهزة، بينما تُترَك خصوصية النص الافتراضي – من لحظة النشر، إلى زمن التفاعل، إلى طبيعة الوسيط – خارج مجال النظر، وكأن الناقد يقرأ من خلف ستار، أو لعله يقرأ في كتابٍ طواه الغياب.


فبدلًا من مساءلة النصوص الرقمية على نحوٍ يستلهم من طبيعتها، تأتي القراءة ملبّدة بالمنهج، لا بمرونة التأويل. وفي هذا تعارضٌ صريح مع ما يشير إليه بول ريكور من أن التأويل ينبغي أن يُنصت لما يقوله النص، لا لما يُراد منه أن يقوله¹.
مقاربة أم إسقاط ذهني للناقد المزعوم؟


الفضاء الافتراضي ليس فضاءً ذهنيًّا متخيَّلًا، بل هو فضاء إلكتروني يتكوَّن من بنيات تقنية، وبرمجية، وبيئية رقمية متغيرة، لا يمكن تمثّلها أو فهمها عبر أدوات ذهنية تقليدية. إن ما يُقدَّم بوصفه “مقاربة” هو في حقيقته إسقاطٌ لمخيال الناقد المزعوم على مساحةٍ لا تتقبله، بل ترفضه من أساسه. لذلك نقترح تجاوز مصطلح “المقاربة” لصالح تعبير أكثر دقة كـ”التمثيل النقدي التفاعلي”، أو “التحسس التأويلي”، أو حتى “الإدراك الوسيط”، وهي تعبيرات تحتفظ بمسافة نقدية دون أن تدّعي الإحاطة أو المطابقة.


النقد بلا Wi-Fi


أزمة هذا النوع من المقاربات أنها تنطلق من إيمان خرافي باستنساخ المفاهيم، كما لو أن كل ما كُتب على الشاشة لا بد أن يُقاس بما كُتب على الورق، وما قيل في القصيدة الرقمية لا بد أن يُفهم كما فُهمت المعلقات.لكن، هل يتسع النقد الورقي لفوضى النصوص الافتراضية؟هل يصلح سيف ابن قتيبة لتقطيع خيوط الشبكة العنكبوتية؟أم أن كل ما يجري ليس أكثر من فشلٍ في تحديث البرنامج النقدي، وإصرار على فتح ملفات العصر الرقمي ببرامج تعود إلى “ويندوز 95”؟


لقد أُهملت عناصر أساسية في فهم النص الرقمي: الحضور اللحظي، التفاعل الجماعي، الطابع العابر، العلاقة بالأنا المصغّرة (الملف الشخصي)، وانفتاح المعنى على تعليقات الجمهور وتعدديته. فهل يمكن تجاهل هذا كله، والادعاء بأن المقاربة قد حدثت؟


مقاربة بـ”كعب عالٍ”


إن أكثر ما يثير الدهشة هو الحرص على إلباس النصوص الافتراضية زينةً بلاغية ثقيلة، كما لو أن الفضاء الرقمي صالةُ عرضٍ للأزياء المفاهيمية، لا ساحةٌ حية تتصارع فيها المعاني، وتتفكك فيها الأبنية الكلاسيكية للهوية والنص والكاتب والمتلقي.إنها مقاربة تُشبه من يصرّ على ارتداء الكعب العالي في أرضٍ موحلة؛ المظهر فخم، لكن الخطو متعثر، والنتيجة سقوطٌ على وجه المفهوم!


الفضاء الرقمي لا يحتاج إلى من “يقتحمه” بقوالب جاهزة، بل إلى من يتفاعل معه بشروطه: بفوضاه، وسرعته، وتمرده، ولا مركزيته. لا يمكن لنقدٍ أن ينجح هنا ما لم يُعِد التفكير في ماهية النص، وفي وظيفة القراءة، وفي منطق التأويل بوصفه فعلًا مشتركًا حيًّا، لا جملةً توجيهية تنطلق من سلطة الناقد على النص.


فالمقاربة الحقيقية تبدأ من داخل النصوص، من تفاعلها اللحظي، من جغرافيتها الزمنية، من تكنولوجيتها الذاتية. أما المقاربة التي تنطلق من مرجعيات مشحونة مسبقًا، فليست سوى محاولةٍ فاشلة لإعادة تدوير أدوات مستهلكة، تُقنع نفسها أنها تصنع نقدًا، فيما هي لا تصنع أكثر من مزيدٍ من الحبر المسكوب على أوراق لا يقرؤها أحد.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن