16 Oct
16Oct


كانت وما تزالُ ملاذَ الإنسان من أشعّةِ الشمس في أرضِ الرافدين، وقد تكونُ ملاذاً يربطهُ بالأرض.

شجرةُ السِّدر، أو النّبگ كما يُسمّيها العراقيّون، نشأت في السهول والأوديةِ العراقيّة منذ آلاف السنين، كنباتٍ طبيعيٍّ تدخّل الإنسانُ بزراعته بعنايةٍ في المزارع وقرب البيوت وداخلها والطرق، كأنّها وصيّةٌ من الأجداد لتظلَّ حارسةَ المكان وذاكرتهُ الخضراء.


تنتمي شجرةُ النّبگ إلى الفصيلة السِّدرية، واسمُها العلمي Ziziphus spina-christi، وهي نباتٌ محليٌّ أصيلٌ في بيئتِنا، تُشعِرُ الفردَ بتلك الفطرة المرتبطة بالأرض كالنخيل والرّازقي والبابونج والجوري...


تتميّزُ هذه الشجرة بقدرتِها العجيبة على تحمُّل العطش والملوحة ودرجات الحرارة العالية، حتى لتبدو كأنّها خُلِقت خصّيصاً لتصمدَ في مناخ العراق المتقلِّب.

أوراقها بيضويّةٌ لامعةٌ خضراءُ طوال العام، وثمارُها الصغيرة الحلوة تُعرَف باسم النّبگ، وتُؤكَل طازجةً أو مُجفّفةً كنوعٍ من الفاكهة البريّة ذات المذاق التراثي، وتمثّلُ مورداً اقتصاديّاً لا يُستهانُ به.


شجرةُ النّبَگ تمثّلُ أيضاً رمزاً روحيّاً وبيئيّاً عميقاً في الوعي الجمعي للعراقيّين، ذُكِرَت في القرآن الكريم في مواضعَ ثلاثة، أقدسُها عند قوله تعالى:{عِندَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى}،مما جعلها ترتبطُ بفكرة السكينة والسّمو، وتُصبحُ علامةً على الطهارة والسلام.
في الموروث الشعبيّ تُعامَلُ السِّدرُ باحترامٍ كبير، وتُسمّى في بعض المناطقِ بـ "العلويّة" ، إذ يُقال إنَّ ظلّها يجلبُ الطمأنينة، وإنّها شجرةٌ مباركةٌ تحرسُ البيوت من الشرور.حتى إنَّ البعضَ جعل من أغصانها مكاناً لوضع "العَلَگ"، أي خِرَقٍ صغيرة من القماش الأخضر تيمُّناً بالبركة، وتعبيراً عن رجاءٍ صامتٍ لا يزول.


في كثيرٍ من مناطقِ العراق كان الناس يجلسون في ظلِّها ظُهراَ لتناول الغداء أو لشرب الشاي، وتُقامُ تحتها المجالسُ الصغيرة، ومن هناك تسلّلت السِّدرَةُ إلى الأمثال الشعبيّة والقصائد والأغاني.

ومن المدهشِ أنَّ جذعَ السّدرة القديمة غالباً ما يحملُ آثارَ المساميرِ والحبال التي كان يُعلِّق بها المزارعون أدواتهم أو الأطفالُ أرجوحاتِهم، وكأنّها شجرةٌ تُشارِك العائلةَ حياتَها اليوميّة وتحتفظُ بذكرياتها على جسدِها الخشبي الصامد.


لذا باتت هذه الشجرة تمثّلُ في الأنثروبولوجيا العراقيّة صورةً من صور الحامية والمقدَّسة؛فكما كانت الأمُّ تُحيط أبناءَها برعايتها، تُحيط السّدرَةُ بأشواكِها الحادّة بسياجٍ من الأمان للطيور والحياة الصغيرة داخل أغصانِها، فتتّخذُ منها العصافيرُ أعشاشاً لا تصلُها يدٌ، وتُصبح الشجرةُ مأوىً طبيعيّاً يحميها من الحرّ والرياح والمفترسات.
أيضاً تَغتذي من أزهارِها الصُفر الرقيقات النحلُ والفراشاتُ والكائناتُ الدقيقة التي تُحافظ على توازن الطبيعة، وتُسهم بإنتاج أحدِ أهمِّ أنواع العسل في العالم، هو عسلُ السِّدر الذي يشتهرُ بجودتِه العالية ونكهتِه الفريدة وقدرته العلاجيّة.

كما أنَّ أوراقَها تُستَخدم في الطبّ الشعبي لعلاج أمراض الجلد وتنقية الشعر، وخشبَها الصلبَ يدخلُ في الصناعات الخفيفة، ممّا يجعلُها شجرةً متعدِّدةَ المنافع تجمعُ بين الفائدة والجمال والرَّمز.
وجودُ هذه الشجرة ابتعدَ عن الترف الجمالي المجرَّد، فهي ضرورةٌ اقتصاديّةٌ وبيئيّةٌ تدعمُ التنوّع الحيويّ وتحافظُ على دورة الحياة.وعلى الرغم من هذه المزايا، ما زال حضورُ السِّدر في برامج التشجير الحديثة محدوداً، وكأنَّ الإدارات المعنيّة غفلت عن هذا الكنز البيئيّ.

فبينما تُزرع في المدنِ أشجارٌ دخيلةٌ تستهلكُ الماءَ وتذبلُ في القيظ، تبقى السّدرةُ "ابنة الأرض العراقيّة" قادرةً على البقاء دون حاجةٍ إلى عنايةٍ كبيرة.


جذورُها العميقة تحفظُ التربةَ من الانجراف، وأوراقُها الكثيفة تَمتصُ الغبارَ وتلطِّفُ الجوّ، ما يجعلها من أنسب الأشجار لمدن العراق التي تُعاني من الغبار والجفاف.


"لو" أُدرِجَت ضمن مشاريع التشجير، لأمكن أن تتحوّلَ إلى رمزٍ وطنيٍّ أخضر يُعبِّر عن صبر العراقيّين وثباتهم، تماماً كما ظلَّت عبرَ القرون شاهدةً على أفراحِهم وأحزانِهم.فالسّدرةُ لا تتطلّبُ سوى مساحةٍ صغيرةٍ وماءٍ قليلٍ واهتمامٍ يُعيد إليها مكانتَها التي تستحقّها.في مقابل ذلك، تُشكّل مورداً اقتصاديّاَ بإنتاجِها، وتمنحُ الأرضَ جمالاً دائماً، والبيئةَ استقراراً والإنسانَ شعوراً بالانتماءِ إلى جذورِه الأولى.


إنَّ إعادةَ الاعتبار لشجرة السِّدر، اليوم، يتجاوزُ البُعدَ الاقتصادي إلى مشروعٍ بيئيٍّ مهمٍّ ووعيٍ وذاكرة، ففي زراعتِها نَغرسُ رمزاً من رموز الهويّة العراقيّة، ونعيدُ للبيئة توازنَها، وللمكانِ شخصيّتَه، وللإنسانِ رابطتَه القديمة بالأرض.


كلُّ سِدرةٍ جديدة يمكن أن تكونَ نواةَ واحةٍ صغيرةٍ، تبعِثُ الحياةَ في محيطِها، وتستدعي الطيورَ والنحل، وتُعيد إلى المشهدِ العراقي تلك الخُضرةَ التي نفتقدُها في المدن والإسفلت والضجيج.


لقد آن الأوانُ لأن نلتفتَ إلى هذه الشجرة الأصيلة، ونُعيدها إلى الحدائق والمدارس والشوارع، نُدرجها في الخطط الزراعيّة والبيئيّة، ونُعلّم الأجيالَ الجديدةَ كيف تعتني بها كما اعتنى بها الأجداد.إنَّها شجرةُ ماضٍ يمكنُ أن تكون شجرةَ مستقبلٍ أخضر، قادرةً على التكيّف مع التغيّر المناخي وموجات الجفاف، ورمزٌ يجمعُ بين الذاكرة والبيئة والجمال الذي يستمرُّ مهما اشتدّ القيظ.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن