08 Dec
08Dec

كانت اللقطة قصيرة، لكنها تختصر طبقاتٍ عميقة من علاقتنا بالسلطة، رتبٌ عسكرية تتزاحم للوصول إلى يد الرئيس السوري "السابق"، في حركة تُشبه الطقوس الموروثة وبعيدة كل البعد عن التحيّة الرسمية.

 لا كانت اللقطة قصيرة، لكنها تختصر طبقاتٍ عميقة من علاقتنا بالسلطة، رتبٌ عسكرية تتزاحم للوصول إلى يد الرئيس السوري "السابق"، في حركة تُشبه الطقوس الموروثة وبعيدة كل البعد عن التحيّة الرسمية. 

لا جديد في الصورة، لكنَّ حضورها يكشف عن ميراثٍ طويل يجعل المسؤول أكبر من وظيفته وأقرب إلى رمزٍ يُعامل بقدرٍ من القداسة.شهدت المنطقة أمثلة كثيرة على هذا النمط، في العراق تمدّد تمجيد صدام حسين حتى بلغ مساحة تتجاوز السياسة إلى الأسطورة، بصورٍ وألقاب وخطاباتٍ صنعت حوله ملامحَ الزعيم المُلهَم. وفي دولٍ عربيةٍ أخرى برزت صيغٌ مشابهة في تقديم القادة باعتبارهم أصحاب رؤية لا تُخطئ وقوة لا تُقهر وشخصيات تُعامل كأنّها استثناء في التاريخ.وما يزال الأمر متكرراً ..هل السلطة وحدها مَن غذّى هذه الظاهرة ؟ أم المجتمع شريكاً في تشكيله؟  وهل هو بدافع الخوف أو الحاجة أو الامتياز ؟يسعى الكثيرون للتقرب من المسؤول عبر المبالغة في إظهار الاحترام، فينحني بعضهم ويُقبّل آخرون ويستعمل غيرهم لغة المديح "بتنوعها" بوصفها مفتاحاً يُسهِّل الطريق داخل المؤسسات الرسمية والمجتمعية التي لا تعتمد دائماً معايير واضحة في التقييم. وهكذا تتكوّن دائرة مغلقة تتغذّى فيها السلطة والمجتمع على السلوك نفسه: الناس تُبالغ والسلطة تُشجّع والشخص يرتفع فوق المؤسسة.
غير أنّ المفارقة الأكثر وضوحاً تتمثل في تحوّل كثير ممّن كانوا يمجّدون الزعماء السابقين إلى أشدّ ناقديهم بعد سقوطهم، الكلمات التي صيغت للمديح صارت تُستخدم للذم والأسلوب الذي زُيّن به القائد تحوّل إلى أداة لنزع شرعيته، ثمَّ ينتقل الأشخاص أنفسهم لتمجيد القادمين الجدد بالوتيرة ذاتها، كأنَّ الولاء كان مرتبطاً بالموقع لا بالقناعة.

هذا الانقلاب السريع لا يعبّر عن مراجعة نقدية، بقدر ما يكشف عن وعيٍ يبدّل اتجاهه تبعاً للغالب لا تبعاً لمبدأ ثابت.


هذا الاستمرار يؤكد أنّ المشكلة لا تكمن فقط في الزعماء إنّما في البنية التي تصنع لهم هذه المكانة. علاقة المجتمع بالسلطة ما زالت تُدار غالباً على أساس الشخص لا المؤسسة وعلى العاطفة لا القانون وعلى صورة الزعيم أكثر من أداء النظام. لذلك تتعرض بعض الدول لاهتزازات حادة عندما يتغيّر رأس السلطة، لأنّ المؤسسات كانت تعمل على هوامش الرمز، لا وفق نظامٍ قادر على الاستمرار بذاته.
وينتج عن هذه الظاهرة اختلال واضح داخل أجهزة الدولة، تتراجع المهنية لحساب الولاء ويختفي النقد وتُغلق الأبواب أمام المبادرة. وتترسخ لدى الأجيال فكرة أنّ الطريق إلى الفرص يمرّ عبر التقرّب من أصحاب السلطة لا عبر العمل والإنجاز. في بيئةٍ كهذه يصبح السياسي محوراً لطقوس تُعيد إنتاج نفسها ويتحوّل المجتمع إلى حاضنة تُكرّر السلوك ذاته مع كل وجهٍ جديد.
عند هذه النقطة يعود المشهد الأول إلى الذاكرة" الجندي الذي يتسابق لتقبيل يد رئيسه"  والجموع التي تغيّر مديحها وهجاءها بتغيّر السلطة والحاجة المستمرة إلى رمزٍ يُعلّق الناس عليه آمالهم.
ويبقى السؤال مطروحاً أمام القارئ: كيف يمكن بناء علاقة ناضجة مع السلطة في عالمنا العربي، علاقة تُعيد السياسي إلى حجمه الطبيعي وتمنح المؤسسات قيمتها وتُخرج الاحترام من دائرة التقديس إلى مساحة المسؤولية؟ التحوّل يبدأ من الوعي ومن فهمٍ أبسط لمعنى الدولة: كيانٌ يعمل بالقانون، لا بالهالة، ومسؤولٌ يخدم الناس، لا يتعالى فوقهم. في الصورة، لكنَّ حضورها يكشف عن ميراثٍ طويل يجعل المسؤول أكبر من وظيفته وأقرب إلى رمزٍ يُعامل بقدرٍ من القداسة.

شهدت المنطقة أمثلة كثيرة على هذا النمط، في العراق تمدّد تمجيد صدام حسين حتى بلغ مساحة تتجاوز السياسة إلى الأسطورة، بصورٍ وألقاب وخطاباتٍ صنعت حوله ملامحَ الزعيم المُلهَم. 

وفي دولٍ عربيةٍ أخرى برزت صيغٌ مشابهة في تقديم القادة باعتبارهم أصحاب رؤية لا تُخطئ وقوة لا تُقهر وشخصيات تُعامل كأنّها استثناء في التاريخ.وما يزال الأمر متكرراً ..هل السلطة وحدها مَن غذّى هذه الظاهرة ؟ أم المجتمع شريكاً في تشكيله؟  وهل هو بدافع الخوف أو الحاجة أو الامتياز ؟يسعى الكثيرون للتقرب من المسؤول عبر المبالغة في إظهار الاحترام، فينحني بعضهم ويُقبّل آخرون ويستعمل غيرهم لغة المديح "بتنوعها" بوصفها مفتاحاً يُسهِّل الطريق داخل المؤسسات الرسمية والمجتمعية التي لا تعتمد دائماً معايير واضحة في التقييم. 

وهكذا تتكوّن دائرة مغلقة تتغذّى فيها السلطة والمجتمع على السلوك نفسه: الناس تُبالغ والسلطة تُشجّع والشخص يرتفع فوق المؤسسة.
غير أنّ المفارقة الأكثر وضوحاً تتمثل في تحوّل كثير ممّن كانوا يمجّدون الزعماء السابقين إلى أشدّ ناقديهم بعد سقوطهم، الكلمات التي صيغت للمديح صارت تُستخدم للذم والأسلوب الذي زُيّن به القائد تحوّل إلى أداة لنزع شرعيته، ثمَّ ينتقل الأشخاص أنفسهم لتمجيد القادمين الجدد بالوتيرة ذاتها، كأنَّ الولاء كان مرتبطاً بالموقع لا بالقناعة.هذا الانقلاب السريع لا يعبّر عن مراجعة نقدية، بقدر ما يكشف عن وعيٍ يبدّل اتجاهه تبعاً للغالب لا تبعاً لمبدأ ثابت.


هذا الاستمرار يؤكد أنّ المشكلة لا تكمن فقط في الزعماء إنّما في البنية التي تصنع لهم هذه المكانة. علاقة المجتمع بالسلطة ما زالت تُدار غالباً على أساس الشخص لا المؤسسة وعلى العاطفة لا القانون وعلى صورة الزعيم أكثر من أداء النظام. لذلك تتعرض بعض الدول لاهتزازات حادة عندما يتغيّر رأس السلطة، لأنّ المؤسسات كانت تعمل على هوامش الرمز، لا وفق نظامٍ قادر على الاستمرار بذاته.


وينتج عن هذه الظاهرة اختلال واضح داخل أجهزة الدولة، تتراجع المهنية لحساب الولاء ويختفي النقد وتُغلق الأبواب أمام المبادرة. 

وتترسخ لدى الأجيال فكرة أنّ الطريق إلى الفرص يمرّ عبر التقرّب من أصحاب السلطة لا عبر العمل والإنجاز. 

في بيئةٍ كهذه يصبح السياسي محوراً لطقوس تُعيد إنتاج نفسها ويتحوّل المجتمع إلى حاضنة تُكرّر السلوك ذاته مع كل وجهٍ جديد.


عند هذه النقطة يعود المشهد الأول إلى الذاكرة" الجندي الذي يتسابق لتقبيل يد رئيسه"  والجموع التي تغيّر مديحها وهجاءها بتغيّر السلطة والحاجة المستمرة إلى رمزٍ يُعلّق الناس عليه آمالهم.
ويبقى السؤال مطروحاً أمام القارئ: كيف يمكن بناء علاقة ناضجة مع السلطة في عالمنا العربي، علاقة تُعيد السياسي إلى حجمه الطبيعي وتمنح المؤسسات قيمتها وتُخرج الاحترام من دائرة التقديس إلى مساحة المسؤولية؟ التحوّل يبدأ من الوعي ومن فهمٍ أبسط لمعنى الدولة: كيانٌ يعمل بالقانون، لا بالهالة، ومسؤولٌ يخدم الناس، لا يتعالى فوقهم.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن