محمد الكلابي
ليست كل الضربات تُقاس بما تصيبه من أهداف، بل بما تُسقطه من تصورات راسخة.
ما حدث مؤخرا بين إيران وإسرائيل ليس امتدادا لصراع مألوف، بل بداية لانقلاب عميق في مفاهيم السيادة والردع والفاعلية الجيوسياسية.
للمرة الأولى، تخرج دولة من موقع المتهم والمحاصر لتؤسس، بالفعل لا بالقول، منطقاً جديدا للقوة: أن الفعل الحقيقي لا يأتي من فائض الأسلحة، بل من فائض القرار.
حين نفذت إيران ضربتها، لم تكن تهدف فقط إلى إصابة هدف عسكري، بل إلى ضرب تصور عالمي: أن إسرائيل كيان لا يُمس. هي لم تتحدَّ تل أبيب فقط، بل تحدَّت فكرة الهيمنة ذاتها.
لقد أثبتت أن الردع لا يُبنى فقط على امتلاك السلاح، بل على القدرة على استخدامه بتوقيت دقيق، لا يستدرج إلى الحرب، ولا يسمح بإفلات الرسالة.
لم تُسقط الضربة طائرة فقط، بل أسقطت سردية إسرائيلية عمرها عقود.
لطالما قيل: "إيران تتوعّد لكنها لا تفعل"، وهذه المقولة سقطت بصمت مدوٍّ.
فعلت إيران ما قيل إنها لا تقدر عليه، وخرجت من الضربة أكثر حضوراً لا عسكرياً فقط، بل معنوياً واستراتيجياً.
وما لم يُطلق كان أقوى من كل ما أُطلق. وهذا هو عمق الردع: أن لا تضرب بكل ما لديك، بل بما يكفي ليبقى الخصم أسير تخيله.
في منطق الردع التقليدي، تُستخدم القوة لصناعة الهيبة. أما في منطق إيران الجديد، فإن الهيبة تُصاغ من خلال إدارة الخوف، والتحكم في المخيّلة الاستراتيجية للخصم. الرد لم يكن في حجم السلاح، بل في دقته، وتوقيته، وفي الصمت الذي تبعه. لقد أجبرت إسرائيل على المبالغة في تقدير الخطر، لا في حجمه، بل في طبيعته غير المتوقعة.
لكن التحول الأهم أن إيران انتقلت من موقع الدولة التي تُحاصر إلى تلك التي تُعيد تعريف التهديد.
لم تعد الطرف الذي يُتوقع منه التراجع، بل الطرف الذي يُؤخذ حسابه قبل اتخاذ أي خطوة.
هذه الضربة لم تكن مجرد فعل عسكري، بل لحظة استراتيجية أعادت صياغة شكل الشرق الأوسط.
في هذا السياق، يبرز الغياب العربي كأوضح تجليات الفجوة بين عمق الحدث وسطحيّة رد الفعل.
لم تُبدِ معظم العواصم العربية سوى ترقّب حذر، وكأن التحول لا يعنيها.
لكنها في الواقع لحظة دعوة مفتوحة لإعادة تعريف المصلحة والموقع: فالحياد هنا لم يعد خياراً حذراً، بل صار شكلا من أشكال الإلغاء الذاتي من التوازن الجديد. وهذه لحظة يجب ألا تُهدر، بل تُغتنم كفرصة للتحرر من الابتزاز السياسي الذي تمارسه القوى الغربية، وعلى رأسها الولايات المتحدة.
المطلوب ليس فقط إعادة التموقع، بل كسر منطق الخوف الذي كبّل القرار العربي لعقود.
فدعم إيران في هذا السياق ليس اصطفافاً أيديولوجيا، بل خطوة استراتيجية نحو استعادة زمام المبادرة الإقليمية، وبداية محتملة لتوحيد الصف العربي على قاعدة الندية والمصلحة المشتركة.
المطلوب الآن ليس اصطفافاً، بل شجاعة في التموضع. إيران لم تطلب إعلان الولاء، لكنها أجبرت الجميع على مراجعة حساباتهم.
اللحظة تفرض على الدول العربية أن تسأل: ما الشكل الذي نريد أن نكون عليه في النظام الإقليمي المقبل؟ وهل يمكن لصوتنا أن يظل مؤجلاً إلى ما بعد توزيع الأدوار؟
الشرق الأوسط لم يعد محكوما بقواعد الردع القديمة. توازن الرعب لم يعد قائماً على من يملك القنبلة، بل على من يملك قرار استخدامها.
تمامًا كما فعلت باكستان يوم أعلنت عن سلاحها وغيّرت كل الحسابات، فإن إيران، وإن لم تُعلن، تقترب من لحظة لن يكون بعدها شيء كما كان.
وهذا ما تخشاه تل أبيب: أن يتحول الشك إلى يقين، والاحتمال إلى إعلان، والمستبعد إلى واقع.
إيران لم تُصدر بيانا تطلب فيه اعترافاً بدورها، بل مارسته ببساطة.
فعلت ما يفعله من يملك القرار: ضبطت الإيقاع ثم صمتت. لم تفتح فقط جبهة في السماء، بل لحظة سياسية نادرة يمكن البناء عليها.
فرصة لتأسيس محور لا يقوم على التبعية، بل على الندية، على المصالح لا الأوهام، وعلى الحضور العاقل لا الحياد الوقائي.
إن اللحظة ليست لحظة شعارات، بل لحظة جراح استراتيجية. من لا يجرؤ اليوم على تموضع واضح، سيُفرض عليه غداً أن يتبع خارطة لم يكن شريكًا في رسمها. لقد بدأ رسم الخريطة الجديدة… ومن لم يسمع الرسالة، سيسمع قريباً صداها، وهو خارج إطار القرار.