23 Oct
23Oct


لم أكن أبحث عن التاريخ في زيارتي إلى بابل اليوم، كنتُ أبحث عن تلك التأثيرات التي خلّفتها عناصر المناخ، وما سيكون عليه الأمر مع المتغيّرات التي نعيشها.رافقتُ فريقاً من وكالة رويترز العالمية  في مهمةٍ توثيقية عن أثر التغيّر المناخي على هذه المدينة القديمة.


بمجرد دخول المنطقة الآثارية، ورؤية التلال التي ما زالت تكتنز أسرارها في باطنها، وجدتُ نفسي أدخل في دوّامة الأساطير.

قطع ذلك التداعي مشهد المسرح البابلي حيث كانت مجموعةٌ من الشباب تجمع أوراق الدعايات الانتخابية المتناثرة بعد مؤتمرٍ أُقيم بالأمس.

كانت الريح ترفع الورق كأنّها تُعيد تمثيل مشهدٍ من زمنٍ آخر.مسرحٌ واحد تغيّر جمهوره وتبدّلت لغته ولم تتبدّل الفكرة: كلّ العصور تبحث عن منبرٍ تَنشدُ من على ناصيته صدى أحلامها.


واصلنا السير، فكان الوقوف عند باب عشتار التي حافظت على هيبتها رغم أنّ اللون الأزرق فقد ذاكرته وصار باهتاً، فيما بقي اللون الأصلي اللامع المزجّج في برلين شاهداً على مجدها البعيد.وبمجرد دخول المدينة ومشاهدة الممشى الذي تجاوز عمره ألفين وخمسمئة عام، حيث مرّت فيه مواكب الملوك واستعرضت فيه جيوش بابل، وسارت فيه النذور الأولى، أدركتُ أنّ هذا الطريق ما زال يحتفظ بسرّه رغم كل ما مرّ عليه.

كان الممرّ حينها تغمره المياه في السواقي الطينية التي تبارك مواسم الزرع، أما الآن فصامدٌ بصمته، متشبّثٌ بقدمه مثل كفّ عجوزٍ نسي المطر.


أغمضتُ عينيّ للحظة، وسمعتُ الصدى القديم لتراتيل الكهنة، صوتاً بعيداً يشبه رجع الموج في سواقيٍ اندثرت، حتى وصلتُ إلى بئرٍ تحيطها حجارةٌ مشقّقة تتنفس الأرض من خلالها من غير أن ترى الماء، تُروى عندها حكاية هاروت وماروت، ولا أدري إن كانت لا تزال تُسمّى باسم الإلهة الأم ننماخ التي صنعت الإنسان من طينٍ ودمٍ سماوي.نظرتُ في البئر فلم أرَ أي انعكاس للسماء، بئر ساكن جاف كعينٍ أنهكها الانتظار حتى عجزت عن البكاء.لا أدري إن كان المَلَكَان ما زالا عالقين في هذا الصمت الأبدي، لكنّ هذا السكون هو ما يحفظ سرّ المكان.
واصلنا المسير نحو "أسد بابل" حارس المدينة القوي، الذي أثبت خلوده بعدم تأثره بكل ما حوله، يقف في صمتٍ متعالٍ كأنّ صوته تسرّب مع المياه التي رحلت.

التراب عند قدميه والقاعدة المتشقّقه، والنباتات التي تحيطه عطشى، ترفع أوراقها نحو الهواء كأنّها تستجدي قطرة.

أحد الشباب التقط له صورة وقال مبتسماً: “كأنه ينتظر المطر مثلنا.”ابتسمتُ ايضاً، لكنني شعرتُ أن الجفاف هنا تعدى الأرض ليكون الزمن الذي فَقد ذاكرته الخضراء.


بقايا القصور المنقَّبة جزئياً تنتظر من ينقذها من عوامل التعرية، فهي الأكثر تأثّراً بالتغيّرات المناخية والتملّح.بمجرد الاقتراب منها يستقبلك هواءٌ خانق يحمل رائحة الطين المحترق.الجدران التي كانت شاهدةً على الملوك صارت متآكلة، كأنها تنهار ببطءٍ لتعود إلى أصلها الأول.

تذكّرتُ الحدائق المعلّقة التي بُنيت حبّاً بإمرأةٍ اشتاقت إلى الجبال، وتساءلتُ: كم من المدن بُنيت حبّاً وانهارت عطشاً؟


في الممرّ الطويل المؤدي إلى المتاهة، كان الطين يتقشّر من الجدران المتهالكة مثل جلدٍ قديمٍ تخلّى عن صاحبه.سمعتُ في داخلي صدى الأسطورة القديمة: الأرض إذا عطشت تغيّر جلدها كي تبقى حيّة.

وفي القاعات الملكية كان الضوء يتسلل من الشقوق، يرسم خيوطاً على الجدران مثل كتابةٍ لم تُكملها يد.

كنتُ أمشي ببطءٍ كأنني أخاف أن أوقظ ما بقي نائماً من الملوك.

كل زاويةٍ تهمس باسمٍ: مردوخ، نبو، شمش، عشتار… أسماءٌ لا تموت، لكنها تتلاشى في الغبار مثل أوراق المسرح بالأمس.


وحين وصلنا إلى المكان الذي يُقال إنّه موضع حكم نبوخذ نصر، كانت العلامات ما زالت شاهدة عليه كما أرادها.

هناك، على الدكّة ذاتها، تنتهي القصة بموت الإسكندر الأكبر، الذي أراد أن يُخلّد في بابل، فخلّدته هي في ترابها وذاكرتها، وكأنّ المكان احتفظ بأنفاسه الأخيرة في صدره.

قلتُ لمن حولي: “هنا انتهت الإمبراطورية.”لكنّي لم أقصد موت الإسكندر؛ فالإمبراطوريات لا تموت بالسيوف، بل حين يجفّ الماء في عروقها.


عدنا أدراجنا عندما ازدادت حرارة الشمس، والمسرح البابلي بدا لنا من جديد، وقد أنهى الشباب تنظيفه.كانت الأسطورة تمشي معي ولسان حالها يقول:
“كنتُ أرض الطوفان، وصرتُ أرض الجفاف.”
الأمر ليس بجديد، لكنّه موجع.نظرتُ إلى الأفق، حيث كان الفرات يلمع في البعيد مثل ذكرى بعيدة، وقلتُ في سرّي:
إذا صمتت المياه، فستتكلم الأساطير وسط جدرانٍ تمثّل جزءاً من هويتنا الإنسانية.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن