05A2EDD17376135DD5B5E7216D8C98DB
30 May
30May


د. منتصر صباح الحسناوي


عبارات تتكرر كثيراً وتستوقفني بشِدّة كلما مرّت أمامي:“قبل أحسن”، “الزمن الجميل”…كأنها مفاتيح لذاكرةٍ مختلطة، أو ربما قيودٌ غير مرئية تشدّ الناس إلى الوراء حين يضيق بهم الحاضر أو يثقل عليهم المستقبل.


لكن، ما الذي كان “أحسن”؟ 

وعلى أي أساس يُقال ذلك؟هل نحن نقيّم واقعاً فعلياً، أم نُطارد وهماً صنعته ذاكرةٌ انتقائية تحب أن تتذكّر، وتنسى ما لا يُناسب الحنين؟

هل نسي البعضُ الحروب وأعدادَ الشهداء والحصار والعوز وإهانة الكرامة وكبت الرأي؟

أم أنها مشاهد لم تكن مؤثرة بما يكفي ليحتفظ بها الوجدان؟

أين ذهبت صور “جگاير اللف” و"المزبن"  والطوابير الطويلة على الجمعيات لأجل طبقة بيض أو دجاجة مجمدة؟

هل تتذكرون مثلث التبريد بالبرازيلي الذي كان " لِّلي الله مَّكِنهم”؟أين الركض خلف “الريم” في كراج العلاوي وكل سبعة يتقاتلون على كرسي واحد؟


“قبل أحسن”؟هل كان خبز الشعير الممزوج بالحصو أحسن؟هل كانت الفاكهة التي لا نعرف طعمها ونراها فقط في التلفاز أحسن؟

هل كانت صوغة الحاج  – قوطية بيبسي يُوصي بعدم إظهارها – رمزاً لرفاهٍ مفقود؟


“قبل أحسن”، عندما كنت تفكر في نقد الحكومة ترتعش، وتلتفت يميناً ويساراً قبل أن تهمس، ثم تكتم، ثم تسكت.مجرد الفكرة قد تودي بك إلى غياهب النسيان.الكهرباء؟ هل كانت فعلاً أفضل؟

من كان يملك أجهزة تبريد؟ من كان يجرؤ حتى على الحلم بـ”سبلت” أو “كنتوري”؟الناس اليوم – مهما شكت – تعيش وفرةً لم تكن متاحة، وخيارات لم تكن واردة.

النعمة حين تعتادها العين، تكفّ عن رؤيتها.ومن عاش مآسي ذلك “الزمن الجميل”، يعرف جيداً عما أتكلم.


أما الحرية، فهي وحدها كافية لهدم أسطورة “قبل أحسن”.

الآن، رغم الإفراط في استخدامها أحياناً، تبقى الحرية نعمة لا تُقدَّر بثمن.في السابق، كان مجرد نطق الاسم دون “السيد” أو “القائد” يُعدّ تهمة، والتجاوز على “الرموز” يُفضي إلى المحو.

محو الإنسان، عائلته، وتأريخه.الذاكرة العراقية تعرف كم طُمر من الأسماء، وكم نُسف من البيوت، لأن أحدهم تكلّم بما لا يُعجب الرقيب.
وأي مقارنة هذه مع سنين الحروب؟حروب بلا معنى، بلا مكسب، بلا أفق.كأننا وُلدنا لنُدفن، لنُشيّع، لنودّع.

كأن البلاد خُلقت كي تُسفك على أرضها دماء شبابها دون فائدة.ثم، يُقال عن تلك الحقبة: زمن عزّ أو زمن جميل! أية مفارقة هذه؟ 

حنين إلى الخوف، ويُنسى الدم، ويُبجَّل الصمت المفروض؟


المؤلم أن عبارة “قبل أحسن” لا تعبّر عن رأي، بقدر ما تكشف حالة نكران.إنكارٌ لما نعيشه اليوم من حرية، وخدمات، ومعيشة، وتنوع.رفضٌ لرؤية ما تحقق، مهما كان قليلاً لكنه يبقى أفضل من الصفر أو ما تحته.الناس تتعلق بلقطةٍ في الذاكرة، وتنسى الصورة كاملة.والنتيجة أن السلبية تولّد سلبية، وأن التذمّر لا يخلق أملاً.


نعم هناك كثير من المشكلات وهناك اخطاء وهناك الكثير مما لا نريد له الاستمرار لاننا نطمح بالافضل ، بما يليق بنا لكن النعمةُ لا تكبر بالتشكي، ولا تُديمها الحسرة.

النعمةُ تُحفظ بالحمد، وتُروى بالوعي وتنبت بالعمل الجاد، وتُزهر بالإنصاف.إشكوا إن أردتم، لكن لا تنكروا.حنّوا إن شئتم، لكن لا تضلّوا.

وقيّموا الواقع بميزانٍ عادل، لا بلسانٍ جائر ومضلل.ربما كانت هناك أيام أجمل،وربما خفّت على بعض القلوب أيام مضت،لكن أن نقول “قبل أحسن”، هكذا جزافاً،فهذا ليس حنيناً…بل جحود.
قبل مو أحسن… اليوم أحسن.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن