د. محمد القريشي
قبل سنوات، وبينما كنت راكبا في سيارة نقل عام، صعد شاب بهيئة رياضية حاملا حقيبة متوسطة وجلس جانبي..
بعد دقائق، التفت اليه وسألته عن نوع الرياضة التي يمارسها فأجابني، بانه شبه محترف في كرة القدم وياتي من محافظة الأنبار إلى بغداد للتدريب مع فريق وطني..
وقد أثار جوابه لدي فضولا لمعرفة تداخل الرياضة مع السياسة والمجتمع في ضوء الاحداث الطائفية التي مر بها البلد ..
سالته: بصفتك في هذا المجال، هل ساهمت الرياضة في تقريب الشباب المختلفين؟فأجابني : عندما نكون في فريق واحد في التدريب ببغداد او في المنافسات الرياضية، ننسى اختلافاتنا وتبلغ مشاعر توحدنا أوجها في لحظات الفوز، ولكننا حين نعود إلى بيئاتنا، وتدخل مشاريعنا في خانة الماضي، يهيمن علينا الحاضر بكل مشاكله.وقد أعاد هذا الحوار إلى ذاكرتي مقولة شهيرة عن كرة القدم تتردد في الثقافة الإنجليزية:«كرة القدم لعبةُ جنتلمان يمارسها الاشقياء». Football is a gentleman’s game played by hooligans”، وهي مقولة تكشف عن مفارقة اجتماعية هامة.
رياضة كرة القدم، التي تتميّز اليوم بتنظيمها النخبوي وقوانينها الصارمة، نشأت وترعرعت في الأحياء الشعبية، حيث ينتشر الفقر والعمل الشاق.
فبينما كان الأرستقراطيون يتسابقون على ظهور الخيل، كان القرويون والفقراء يمارسون بأقدامهم ألعابًا كروية بدائية في القرون الوسطى.
ووفقًا لذلك، لم تكن اللعبة في أصلها ترفا اجتماعيا، بل امتدادا رمزيا لمسيرة الفقراء في سعيهم (ركضهم) الدائم وراء الضروريات الأولى للحياة: الرزق، والاعتراف، والنجاة من قسوة الواقع.
ولهذا أدّت الرياضة، في معظم مراحل التاريخ، دور اللغة المشتركة لأولئك الذين حُرموا من القدرة على التعبير عن ذواتهم عبر وسائل المجتمع المألوفة.
وحيث إن الفقر حالة عابرة للطوائف والمذاهب والأديان داخل المجتمع الواحد، تصبح الرياضة إحدى المنافذ المتاحة لتعليق الانقسامات الثانوية، وتحويل التعدد الاجتماعي إلى وحدة شعورية مؤقتة.
ومن هنا، فإن نجاحات الرياضة لا توحِّد الناس بوصفهم ملتفين حول غاية واحدة أو مشروع جامع، بل بوصفهم متشاركين، في الأصل، في هشاشة اجتماعية واحدة؛ فتُخضعهم (ولو لفترة قصيرة) لعملية ذوبان اجتماعي في بوتقة هوية كبرى (المدينة أو الوطن) تحت سحابة عاطفية طاغية.
يعرّف عالم الاجتماع إميل دوركايم "الوجدان الجمعي" بوصفه مجموع المعتقدات والمشاعر المشتركة التي تُمسك المجتمع من الداخل، لا عن طريق الإكراه، بل بواسطة الإحساس بالمشاركة في "معنى" واحد. وفي المجتمعات التي تضعف فيها الروابط المؤسسية أو تتصدّع الهويات السياسية، يبحث هذا "الوجدان" عن قنوات بديلة للتعبير عن نفسه.
في المجتمعات العربية التي يشكّل فيها الفقر محنة اجتماعية واسعة وعابرة للانقسامات الطائفية والمذهبية، تتحوّل الرياضة وخاصة كرة القدم، إلى أحد أهم تجلّيات هذا الوجدان الجمعي. فهي، في هذه الحالة، لا تحصل كثمرة لمشروع (سياسي / اجتماعي او ترف ثقافي) ، بل كمخرج لمسار اجتماعي يتسم بالحرمان والكفاح اليومي.
الرياضة تؤجّل "مؤقتًا" الانتماءات الفرعية (الطائفة، العشيرة، الحزب)، وتضع بدلًا منها إحساسًا بدائيا بالانتماء إلى جماعة «متخيَّلة، ومحسوسة، وواسعة، ومريحة»، تكتسب تسمية الـ«نحن»، ولو إلى حين.
فان اتخذ الاحتفاء بفوز فريق أو تميز لاعب، طابعا جمعيا ( وطنيا او جهويا) وفرض نفسه على الشأن العام "كإنجاز" ، فانه يضمر في أعماقه تعويضا رمزيا عن إخفاقات السياسة والاقتصاد ومحاولة ترميم عاطفي لوحدة متصدعة.
لحظات الفرح الرياضي في المجتمعات العربية كغيرها من المجتمعات التي تتعثر فيها الدول، تمثّل ما يسميه دوركايم "الهيجان الجمعي" effervescence collective التي تتكثف فيه المشاعر وتتوحّد الإيماءات، ويشعر الأفراد (ولو لحظة) بأنهم جزء من جسد اجتماعي واحد. ولكن هذه الوحدة تظل هشّة وزمنية، لأنها لا تستند إلى مؤسسات سياسية عادلة بل إلى اندفاعة عاطفية تخمد .
وفي هذا السياق، وعلى سبيل المثال، احتفل الجمهور العراقي بفوز منتخب بلاده على إيران عام 1977 في مباراة تاريخية أضفى عليها النظام العراقي آنذاك طابعًا سياسيًا وقوميًا. وقد عمّت مظاهر الفرح مختلف فئات المجتمع، وتكاثرت الاحتفالات، غير أنّ ذلك لم يُلغِ الانقسامات الداخلية القائمة، ولم يُسهم في ترسيخ المواطنة بوصفها قيمة دائمة في المجتمع.
وعندما جرى استذكار هذا الحدث بعد أكثر من أربعين عامًا عبر إحدى وسائل التواصل الاجتماعي، وفي ظل مناخ مشحون بالاستقطاب والمحاصصة، أُعيد تحميل الحدث نفسه دلالات طائفية، عكستها تعليقات المتفاعلين. ويُظهر ذلك بوضوح «وقتية» الانتماء الجماعي الذي تخلقه كرة القدم، بوصفه اندفاعة عاطفية عابرة، لا عملية مستمرة لإنتاج الوحدة المجتمعية.
وعلى الرغم من الدخول المبكر لكرة القدم في الحيّز المؤسسي والسوقي في الدول الغنية، ولا سيما في أوروبا، وتحولها إلى صناعة عابرة للحدود، فإن بُعدها الاجتماعي لم يختفِ، بل أعيد تموضعه. إذ تؤكّد انتماءاتُ عددٍ كبير من اللاعبين إلى مجتمعات أو دول فقيرة أنّ الجذر الاقتصادي ما زال فاعلًا في مسار هذه الرياضة، وأنها، وإن لم تعد اليوم استجابة مباشرة للفقر، فقد بقيت حاملةً لذاكرته، بما تنطوي عليه من دلالات رمزية مرتبطة بأصولها الشعبية.
فالملاعب الأوروبية الحديثة، التي خضعت لمنطق الخصخصة وارتفعت كلف الوصول إليها، لم تغادر خطاب "الحي" و"المدينة" و"الطبقة" ولم تترك الاستثمار في سرديات الانتماء والتاريخ والمعاناة الاجتماعية السابقة. واستنادا الى ذلك، لم يُزيح السوق "الوجدان الجمعي" المرتبط بكرة القدم، بل أعاد إنتاجه، محوّلًا الهشاشة الاجتماعية من تجربة معاشة إلى رأسمال رمزي يُستثمر عاطفيًا وجماهيريًا.