13 Dec
13Dec

«لكي نسير في طريق العقل والسلام والعدل نحتاج الى كثير من التأمل والمعرفة وان نسمع اصوات الشعراء التحذيرية بعناية وجدية ربما بجدية اكبر من اصحاب البنوك وسماسرة الاسهم ولكن في الوقت نفسه يجب الا نتوقع ان العالم عندما يحكمه الشعراء سوف يتحول الى قصيدة»


كلما عدت الى هذه المقولة لفاتسلاف هافل لاأقرؤها بوصفها حكمة سياسية مجردة إنما بوصفها اعترافا انسانيّا دقيقاً بحدود الخيال هافل لا يقصي الأدباء عن السياسة ولا يدفعهم الى قلبها بسذاجة هو يضعهم في المكان الأصعب مكان الصوت التحذيري. ومن هنا يبدأ انطباعي الشخصي ان المعضلة الحقيقية ليست في دخول الأديب عالم السياسة هي تكمن في ما الذي يحدث لعقله لحظة هذا الدخول.


من زاوية عصبية لا يعمل الأدب والسياسة على الآلية نفسها، لاديب في الغالب يتحرك ضمن شبكات عصبية تُعلي من الخيال والسرد والاحتمال والتأمل الطويل ،مناطق تسمح للعقل ان يرى العالم من مسافة وان يحتمل التناقض دون استعجال الحسم، أما السياسة فتستدعي شبكات أخرى أكثر صرامة شبكات القرار والتنفيذ والتوقع وضغط الزمن وتحمل الكلفة. وعندما ينتقل الاديب الى السياسة فهو لا يغير مهنته فقط بل ينقل مركز ثقله العصبي من فضاء الاحتمال الى فضاء الحسم ،هنا بالضبط يتولّد التوتر الذي يفسر لماذا ينجح بعض الأدباء في الحكم ويتعثر اخرون.

في مجتمعات كثيرة تنتشر نصيحة تبدو للوهلة الأولى حكيمة ابتعد عن السياسة انها لوثة انها عالم اللصوص والسماسرة وهذه النصيحة غالبا ما توجه الى أصحاب السيرة الحسنة والأخلاق العالية خوفا عليهم من التلوث، لكن هذه النصيحة تحمل اشكالية أخلاقية عميقة إذا ابتعد الأخيار عن السياسة فلمن نتركها؟ هل نترك ادارة الشأن العام لمن لا يترددون في استخدام القسوة والمصلحة المجردة.

 انسحاب الاخيار من السياسة لا ينتج طهرا عاما بل يفرغ المجال العام من أية كوابح أخلاقية.

وتزداد هذه الاشكالية تعقيدا حين يكون الشخص أديبا الاديب الحالم صاحب الخيال الواسع قاموسه الوردة والغيمة والتلال والأنهار والربيع عالمه الداخلي قائم على المعنى لا على الغلبة وعلى الرمز لا على الصراع كيف يمكن لمثل هذا الخيال الرقيق أن يدخل ساحة السياسة الخشنة دون أن ينكسر أو يتحول إلى نقيضه. هذا السؤال هو جوهر العلاقة المعقدة بين الأدباء والسياسة.


تجربة فاتسلاف هافل تقدم نموذجا نادراً لهذا التوازن الصعب هافل لم ينجح لأنه أديب فقط بل لأنه فهم مبكراً ما لا يجوز للخيال أن يفعله. 

لم يسمح للمسرحية أن تحل محل القرار ولم يسمح للقرار أن يصبح اعمى أخلاقيا. 

احتفظ بمسافة تاملية تحذيرية لكنه لم يتردد في الحسم حين تطلبت الدولة ذلك. لذلك بقي رمزاً حتى بعد مغادرته السلطة لا بوصفه رئيساً سابقا بل بوصفه مثقفا عرف حدود دوره.


اما ليوبولد سنغور فيمثل شكلاً اخر من النضج السياسي العصبي، شاعر قاد بلاده في لحظة تأسيسية ثم غادر السلطة طوعاً دلالة هذا السلوك لا تكمن في الرومانسية بل في فهم عميق لحدود التحمل، الحكم ضغط مستمر على شبكات القرار والتنفيذ وعندما يدرك الانسان أن هذا الضغط بدأ يلتهم خياله الأول فأن الانسحاب يصبح فعلاً سياسياً وليس هروباً سنغور لم ير في المنصب امتداداً طبيعياً للشعر بل مرحلة لها شروطها ونهايتها.


في المقابل تكشف تجربة المنصف المرزوقي وجهاً مختلفاً للمسألة. مثقف حقوقي دخل السياسة محملاً بخيال أخلاقي لكنه اصطدم بواقع التحالفات والمصالح. هنا يظهر الفرق بين الخيال الاخلاقي والخيال السياسي الاول يرى 

العالم كما ينبغي ان يكون والثاني يتعامل مع العالم كما هو مع محاولات محدودة لتعديله. المرزوقي لم يتعثر بسبب غياب المبادئ ربما، بل بسبب غياب الادوات السياسية التي تسمح بترجمة تلك المبادئ الى قرارات قابلة للبقاء.


اما نورمان ميلر فيمثل المثال الاوضح على عدم قابلية الخيال الادبي للترجمة السياسية المباشرة. 

روائي كبير حاول ان يخوض السياسة بالادوات نفسها التي كتب بها رواياته. لكن السياسة لا تنتخب السرد تنتخب القدرة على التوقع ولا تكافئ العمق الرمزي تكافئ وضوح الموقف وسرعة القرار. فشل ميلر لا يقلل من قيمته الادبية لكنه يذكرنا بان تفكيك العالم لغويا لا يعني القدرة على ادارته عمليا.


ما تكشفه هذه النماذج ليس تفوق الادباء ولا فشلهم بل حقيقة ادق السياسة امتحان للدماغ قبل ان تكون امتحانا للاخلاق. ينجح من يعرف حدود خياله ويحسن التنقل بين التامل والحسم ويتعثر من يخلط بين الصوت التحذيري وصوت القرار.


السياسة لا يمكن ان تدار كقصيدة لكنها ايضا لا تستطيع ان تستغني عن الشعراء. ليست بحاجة الى خيال يهرب من الواقع انما الى خيال يذكرها بحدودها الانسانية. فالخطر ليس في دخول الادباء السياسة بل في أن تترك السياسة بلا خيال وبلا صوت تحذيري يذكرها ان القوة وحدها لا تصنع العدالة.

 ‏في هذه السطور حاولت ان اضع عددا من التجارب واطرح تساؤلات تشكلت لدي عبر قراءات متفرقة. 

وبالتاكيد فان التجارب في هذا المجال اوسع من ان تحصر، عالمية وعربية ومحلية، بين من تصدى للحكم او امسك بتفصيلة منه او مارس العمل الدبلوماسي او تسنم الادارة بمستوياتها المختلفة بما فيها الإدارة الثقافية.


اخذت بنظر الاعتبار التجارب التي اسست مشروعا ادبيا واضحا قبل دخولها السياسة، مع الالتفات الى حقيقة أن كثيرا من الكتاب كانوا في بداياتهم شعراء، حتى وان لم يواصلوا هذا المسار، اذ بقي نافذتهم الأولى حين تلح المشاعر على الخروج الى الورق قبل ان تنتظم الافكار.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن