د. محمد القريشي
تُعدّ ظاهرةُ انتشارِ الفكرِ الأصوليّ المتشدّد في أوساطِ التخصّصاتِ العلمية، كالهندسةِ والطبِّ والعلوم، أمرًا لافتًا للنظر، ويدعو إلى التأمّل والتحليل.
وفي هذا السياق، تجدر الإشارة إلى العلاقة بين التطرّف ومستوى التعليم، وضرورة إعادة النظر فيها، في ضوء الطبيعة التعليمية لكثير من الجهاديين الذين تلقّوا تعليمًا عاليًا، مثل: أيمن الظواهري (طبيب)، وأسامة بن لادن (مهندس)، ومحمد عطا (مهندس)، وسيف الدين رزقي (مهندس).
تشير دراسة تحليلية نشرت عام 2016 في جامعة برنستون الاميركية ، تحت عنوان "مهندسو الجهاد: الربط بين التطرف العنيف والتعليم"، إلى أن حوالي 48.5% من الجهاديين المجندين في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تلقوا تعليمًا جامعيًا،ومعظمهم في تخصصات تقنية وعلى رأسها الهندسة، يليها الطب والعلوم الطبيعية. وقد كان التمثيل العالي لأصحاب الاختصاصات الهندسية ضمن الجماعات الجهادية مثيرا للاهتمام بالنسبة للباحثين.
هذه الدراسة قارنت في الوقت نفسه بين الإسلاميين المتشددين وحركات يمينية أخرى مثل النازيين الجدد أو المتطرفين المسيحيين، ووجدت تشابهات كبيرة في خلفياتهم التعليمية ،فالمهندسون كانوا ممثّلين بشكل مميز أيضًا في الحركات اليمينية المتطرفة والحركات الدينية الأصولية في أماكن أخرى.
ربطت دراسة أخرى، بعنوان “على حافة العنف” (The Edge of Violence)، صادرة عن مؤسسة Demos البريطانية (2010)، بين مستوى العنف لدى الجهاديين واختصاصاتهم العلمية. وقد بيّنت أن كثيرًا من “الجهاديين العنيفين” ينتمون إلى التخصّصات العلمية التطبيقية، مثل الهندسة والطب،في حين ينحدر المتشددون غير العنيفين (الذين يتبنون أفكارًا متطرفة دون اللجوء إلى العنف) من تخصّصات أخرى، كالفنون، والعلوم الإنسانية، والعلوم الاجتماعية.
في هذا السياق، من المفيد التمييز بين نمطين من التفكير: اولهما "التفكير الأداتي"، الذي تُعزّزه التخصّصات العلمية مثل الهندسة والطب، حيث يميل الدارسون إلى الحزم والقطعية والبحث عن حلول مباشرة وواضحة.
هذا النوع من التفكير، مع الانضباط الذهني الذي يرافقه، قد يهيّئ بعض الأفراد لتقبّل الأفكار المتشددة. وثانيهما، "التفكير النقدي والتأملي"، الذي توفره العلوم الإنسانية. وهو نمط يدفع الإنسان إلى النقاش والتحليل والانفتاح على الأسئلة الكبرى والاشتغال في المجال العام والثقافي.
أشارت صحيفة لوفيغارو الفرنسية، في مقال نُشر عام 2016، إلى دراسة بريطانية تناولت التحاق نحو 17 طبيبًا بريطانيًا بتنظيم داعش خلال عام 2015.وقد علّق على هذه الظاهرة أستاذ علم الاجتماع العسكري بدرة جلول، محذّرًا من الاستهانة بظاهرة انخراط المتعلّمين في الجماعات الجهادية.
وافتتح تفسيره بتساؤل: “لماذا يتجه هؤلاء نحو هذا المسار، ويلتحقون بهذه المنظمة أو تلك، رغم ما قدّمناه لهم من تعليم، لا سيّما في ما يتعلّق بالتحصين ضدّ الإرهاب والعنف السياسي؟”وأرجع جلول هذا التناقض إلى ما سمّاه بـ”الفراغ الإيديولوجي”، وغياب مشروع سياسي قادر على تلبية حاجات هؤلاء الأفراد وتوفير المعنى لهم.
الفارق بين النمطين يمكن أن يفسّر انجذاب بعض خريجي التخصصات العلمية إلى الأيديولوجيا السلفية الجهادية، التي تقدم أجوبة قطعية ونهائية. فالفكر الأصولي ، يسير بطبعه، وفق “معادلات” فكرية محكمة، وتفسيرات نهائية جاهزة، تقصي الغموض، وترفض النسبية، وتعادي الشك والتأمل.
وهناك أمرٌ آخر قد يُفسّر ما سبق، ويتعلّق بطبيعة التخصّصات العلمية، التي تتيح للدارسين إتقان اللغات الأجنبية والاطلاع على منجزات الغرب العلمية والمعرفية، لكن من دون حوارٍ ثقافيٍّ مع البيئات التي أنتجت تلك المنجزات.
وهذا ما يُعرّض بعضهم لمقارنات مستمرة بين الغرب والشرق، ويضعهم في حالة من الاغتراب أو الكبت الحضاري، وفي مفاضلة مستمرة بين ماضٍ زاهر وحاضرٍ بائس، الأمر الذي قد يدفع إلى اللجوء للفكر الأصولي كوسيلة “للانتقام” من التبعية المتخيَّلة.
في هذه الحالة، يُوفّر الفكر الأصولي “أجوبة جاهزة ومريحة” على أسئلة عميقة تتعلّق بالهوية والانتماء والاستلاب وغيرها.
وفي المقابل، يعتاد طلاب الآداب والفلسفة على التساؤل والنقاش والبحث في البدائل، وهو الأمر الذي يحدد اندفاعهم في الانخراط بالفكر المتطرف.
ولهذا تعمد بعض الكليات متعددة التخصصات (كالجامعات الأمريكية والفرنكوفونية) إلى تدريس مقررات خارج المجالات ، وتشمل أحيانًا مواد في الفلسفة او الأخلاقيات، أو علم الاجتماع او فن الخطابة ، بهدف بناء شخصية متكاملة معرفياً.
في المحصلة، لا يمكن الاعتماد بشكل أساسي على العلاقة بين نقص التعليم والتشدّد، دون الالتفات إلى طبيعة هذا التعليم ونمط التفكير الذي يُنتجه.
فعندما يغيب الحوار الثقافي، ويُهمّش النهج النقدي في العملية التعليمية، تتشكّل البيئة المناسبة لاستقبال الأفكار المغلقة والجاهزة، التي تُقدَّم كحلول سحرية لمشكلات معقّدة مثل الهوية والآخر والتخلّف وغيرها.
من هنا، فإنّ تعزيز العلوم الإنسانية، وتكريس التفكير النقدي، وتحقيق تفاعلها مع مناهج التعليم العلمي، تمثّل ضرورة ملحّة لحماية المجتمع، وصون أمن الدولة، ودعم مسار التنمية.