05A2EDD17376135DD5B5E7216D8C98DB
02 Jul
02Jul

لنغيّر المُدخلات :
(سلطة + مصالح + تطرف) × (إقصاء + خطاب كراهية + شيطنة الآخر) × (وسائل التواصل + الإعلام) = ثقافة الإلغاء
نحاول دائماً أن نغيّر النتائج أو نُصحّحها، لكن ذلك لا يكون دون تغيير المدخلات أساساً.المعادلة كانت أبسط كثيراً وأقل وقعاً، قبل التطور التكنولوجي وظهور الذكاء الاصطناعي. الواقع اليوم تتكاثف فيه معطيات السلطة والمصالح لتُسقي نمو التطرف بأشكاله الديني والطائفي والعرقي وتجعله مظلّة لها.


الأمر يحدث ُ في كلِّ العالم، بفارق التأثير والمتأثّر، وما بينهما من محددات.في العراق، المعادلة مدروسة جيداً وإنتاجها يوميٌ عبر أدوات أكثر دهاءً… أدواتٌ رقميةٌ تعرفُ كيف تُشعل الحشود وتغذّي الكراهية وتُعيد تدوير الإقصاء تحت عناوين ظاهرها أخلاقي وباطنها صراع مصالح.


ثقافة الإلغاء هنا معادلة قائمة بذاتها تتغذّى على مزيج من سلطةٍ، تجدُ في الانقسام فرصةً ومصالحَ تنمو على حساب الفوضى وتطرف يبحث عن عدوه في كل زاوية، فيما تتكفّل الأدوات الرقمية بباقي المهمة من صناعة الوهم إلى تسويق الكراهية.

كلُّ شيءٍ جاهز ٌ لخدمةِ هذه المعادلة ابتداءً بالإقصاء الذي يدفع المختلف خارج حدود النقاش ثم تتفاقم إلى شيطنة الآخر إذ يتحوّل من خصمٍ إلى خطرٍ وجودي لا يستحق الاحترام ولا حتى الاعتراف بوجوده، وهكذا تتكاملُ أركانُ المشهد، ليُولدَ كائنٌ مشوّه اسمه: ثقافة الإلغاء.


يمكن رؤية هذه المعادلة بوضوح في كل ساحة، في السياسة تحوّلت الانتخابات من تنافسِ برامج إلى سباقٍ في تحطيم الآخر وتشويه صورته وتخوينه وتحميله مسؤولية كل الفشل.

إقحامُ الدينِ والمروياتِ التاريخية في هذا المشهد هو كمن يغذّي شبكاته بطاقة نووية تستدام وتتطور ولا أحد يعرف أبعاد انفجارها.وعلى الرغم من وضوح خوارزميات المنصّات إلا أن العقل الجمعي لا يبحثُ عن الحقيقة ولا يكترثُ لها، وهو ما يشجع تلك الأدوات على المساهمة في التحريض عبر إبقائك غاضباً، مشحوناً، مستعداً للدخول في معارك لا تنتهي مع خصومٍ افتراضيين، حقيقيين كانوا أو متخيّلين. هنا، تتحوّل الجملة البسيطة إلى فتيلِ أزمةٍ ويتحوّلُ التعليقُ إلى محرقةٍ معنويةٍ والاختلافُ إلى كارثةٍ اجتماعية.


صناعةُ الإلغاء قد تكون عفويةً أحياناً لكنَّ ذلك يبقى استثناءً في قاعدة قائمة على هندسةٍ مقصودة تُديرها قوى سياسية وتُنفّذها جيوشٌ رقميةٌ تعرفُ كيف تصنع الموجةَ وكيف تُسقط شخصاً أو جهة خلال ساعاتٍ أو تشوّه سيرة أو تُعيد كتابة حدثٍ ليُستخدم كسلاح في صراع أكبر.


في خضّمِ كل هذا، تصبحُ الحقيقة أولى ضحايا المشهد إذ تُستبدل بقناعات مُصنّعة وبسردياتٍ جاهزة. ولا يعود السؤال: ماذا حدث؟ إنما  يصبح: من رواه؟ ولأي جمهور؟ وبأي نبرة؟

ثم يكبر الخطر حين تتداخل هذه الصناعة مع العقل الجمعي التي قد ينجرف إلى إعادة تعريف الأحداث، والتاريخ، والهوية، ليُعيد بناءَ تصنيفات “نحن” و”هم”، “الصالح” و”الطالح”، حتى داخل البيت الواحد والمجتمع الواحد.

هنا، تتآكل فكرة الوطن نفسها ويتحوّل إلى ساحة من التصنيفات لا تجمعها مظلة جامعة ولا رابطة عُليا، كلُّ مجموعةٍ تُعيد التعريف كما تشتهي، وترسمُ الحدودَ على مقاس انتمائها، وتُعيدُ كتابةَ قيّم الوطن وهويته لتلائم خطابها، ثم تُلغي ما عداها.وفي ظل هذا كله، لا يبدو أن المسألة ستنتهي تلقائياً، لأن المدخلات نفسها تنتجُ المخرجات نفسها، ما لم تتدخل معادلة الإصلاح،  وهي معادلة لا تكتفي بتغيير النوايا، ولا تُبنى على الخطابات وحدها، وإنما تحتاج إلى ثلاث ركائز متكاملة؛ تبدأ بقانون  يُقيّد مدخلات المعادلة لا نتائجها لتنضبط بأخلاقيات المجتمع لا بانفعالاته.

ثم يأتي دورُ المؤسسة التنفيذية، بوصفها الجسر بين القانون والناس. والمؤسسة التي تطبق القانون و تحمي التنوع، وتعيد الاعتبار لقيمة الانتماء الوطني فوق كل انتماءٍ فرعي.

لكنَّ القانون وحده، والمؤسسة وحدها، لا يكفيان ما لم يكن هناك وعي ثقافي يتكامل معهما،  وعي لا يتورّط في الحياد السلبي ولا ينخرط في تهريج العقل الجمعي ، لأن أخطر ما يواجه أي مجتمع هو صمت النخب الواعية وتردّد المعتدلين وخوف الحكماء من مواجهة موجات التشهير.


عندما نغيّر المدخلات يصبح بالإمكان إنتاج مشهدٍ مختلف. لا يُظلم فيه المواطن ولا تُلغى فيه التعددية ولا يُقصى فيه المختلف، ليُعاد ترتيب علاقة المجتمع على قاعدة المواطنة . 

الوطن معادلة بسيطة في ظاهرها، معقّدة في جوهرها… النتائج فيه لا تتغير إلا بقدر شجاعتنا في تغيير مدخلاتها.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن