منتصر صباح الحسناوي
كثيراً ما يدور في الذهن هذا السؤال الذي يبدو بسيطاً، لكنه يُخفي خلفه أزمة هوية وطنية واجتماعية متراكمة: ما الذي يجمعنا؟أهو الدين؟ أم اللغة؟ أم الأرض؟ أم النسب؟
وما الذي يمكن أن يكون نواةً صلبةً لهويتنا الجمعية، وسط هذا التنوع أو التباين أحياناً؟
لنبدأ باللغة، نعم تعلّمنا في المدارس أنها من المشتركات الجامعة لكننا في الحقيقة لا نملك لغةً واحدةً فقط، فضلاً عن اللهجات.العرب يتحدثون بلهجاتٍ متعددة تُعبّر عن تنوعهم الجغرافي والثقافي، من اللهجة الموصليّة إلى البغداديّة والبصرية والنجفيّة وغيرها.والكُرد يعتّزون بلغتهم، والسريان لهم لغتهم، والتركمان كذلك.اللغة هنا لا تُشكّل قطيعة لكنها تبقى إطاراً لهوية فرعية أكثر منها رابطة وطنية عليا.
أما الدين، فهو أعمق من مجرد عقيدة شخصية.صحيح، أن اسم “الجامع” يحمل دلالة الوحدة، لكنه في الواقع يُشير إلى جهةٍ بعينها على أساسٍ مذهبيٍ أو مناطقي، وكذلك الكنائس "كاثوليكية وأرثوذكسية وأرمنية وبروتستانتية" .
الدين يُوحّد ضمن الطائفة لكنه لا يُذيب التباينات بين الأديان، وقد لا يُنهي الاختلاف حتى داخل المذهب الواحد.
النسب؟ هويةٌ فرعية أخرى، تنسج وشائج القربى والانتماء، لكنها لا تصنع رابطةً وطنيةً شاملة.العشائرُ متعددة، والأنساب متشعبة، والأصولُ والأعراقُ كذلك، وغالباً ما تتحوّل هذه الخصوصيات إلى عوائقَ في حالِ غياب وعيٍ يتجاوزها.
حتى السياسة، التي يُفترض أن ترعى الاجتماع، كثيراً ما تكون أداةً للتفريق.تُقسّم المواطنين على أساس الولاء، والعقيدة، والأصل، والانتماء المناطقي أو الحزبي، فتزيد التباعد وتُضعف الشعور بالمصير المشترك.
ثم نذهبُ إلى الجغرافية التي تبدو للوهلة الأولى قاعدةً طبيعيةً للانتماء، لكنها لا تُنقّينا من الانقسامات.فهي نفسها قد تُنتج تمايزاً بين إقليم ومحافظة، بين مدينةٍ وريف، بين مركزٍ وهامش.حدودُ الوطن مهمّة وجامعة، لكنها تحتاج إلى رابطةٍ أعمق تُعيد تأويل هذا الانتماء في ظل الامتدادات الدينية والعرقية والمناطقية التي تتجاوز الخطوط على الخريطة.
فما الذي يجمعنا إذن؟
الجواب الأقرب إلى الصدق والفاعلية هو: الثقافة.الثقافة هي الإطار الجامع الذي يحتضن تنوّع المجتمع ويعيدُ تشكيل الانتماء على أساس المعنى المشترك الذي لا يُقصي ولا يُفرق .الثقافةُ التي تحتضنُ التنوع وتحوّله إلى غنى، تتسع ل "دبكة كردية" ونصٍ سرياني وأغنية بغدادية .
تتسع لملتقى النجف و احتفالية الموصل ومهرجان أربيل وندوةِ الكوت ومربد البصرة وزيارةٍ للجبايش .الثقافة لا تسأل: من أنت؟ بل ماذا تقدّم؟لا تفرز الناس وفق الأصل أو الدين أو المذهب، إنما تُقيمهم بالمعنى الذي يُضيفونه للحياة.هذا المعنى تؤكّده النظريات الاجتماعية في كتابه “الجماعات المتخيلة” يرى بنديكت أندرسون أن الهوية الوطنية ليست ميراثاً بيولوجياً أو دينياً بقدر ما هي بناءٌ ثقافيٌ ينشأ من المشاركة في سرديةٍ واحدةٍ تُصنع عبر اللغة، والمطبوعات والتعليم والذاكرة الجمعية.
والمعنى ذاته يؤكده أنطونيو غرامشي الذي يَعدُ الثقافةَ ميدان الصراع الحقيقي على تشكيل الوعي الجمعي، وهي التي تُحدّد ما إذا كان المجتمع سينهض بهوية جامعة أم يتشرذم تحت تناقضاته الداخلية.
في العراق، تتجلى هذه الإمكانية في أمثلة واقعية ك “شارع المتنبي” الذي أصبح ملتقىً لعراقيين من شتى المدن والانتماءات، دون سؤال عن الهوية الفرعية.
وأعداد متنامية من المهرجانات والفعاليات والملتقيات الثقافية ومعارض الكتب التي تحوّلت إلى فضاءات ثقافية تذيبُ التباينات وتُعيدُ تعريف الانتماء.
الثقافةُ التي نعنيها هنا قد تبدو ترفاً للناظر لها من الهامش لكنها مشروعٌ وطنيٌ غيرَ محسوسٍ معززٍ للهوية الوطنية.حين تذبلُ الثقافةُ تبدأُ المكوّنات بالبحث عن هويةٍ بديلة، وحين تزدهرُ فإن الجميع يجدُ فيها انعكاساً له، وامتداداً لهويته الفردية داخل الكلّ الأوسع.الثقافة تحتوي وتستثمر التنوع بأشكاله كقوةٍ ذاتية ينبثقُ منها الاعتزاز بالمواطنة والهوية الوطنية، وتُعيدُ تشكيلَ “نحنُ” على أسسٍ أوسع من الدم والجغرافية، نحو المعنى المشترك والإبداع الإنساني المتبادل.