في إحدى مقاهي شارع بدارو، وسط بيروت، جلسنا إلى طاولة تطلُّ على شارع لا يهدأ، كما لو أنّ المدينة تمارس صراعها الداخلي مع الزمن.المكان بدا مألوفاً بطريقةٍ ما، يشبه تلك الزوايا التي تحفظُ في تفاصيلها ملامحَ الفكرة قبل أن تُقال.
كان اللقاءُ مع، مصطفى هاني فحص، برفقة أخي، كلدو رمزي، فانسابَ الحديثُ مباشرةً نحو موضوع الهوية، الموضوع الذي أعودُ إليه مراراً في كتاباتي.ذكرتُ له أنني أعمل على تسلّيط الضوء على معززات الهوية الجامعة، فتوقّف عند الكلمة وقال ببساطةٍ حاسمة: “أيُّ هوية؟ نحن أصحاب هوية مركبة.
”أجبته بهدوء بعد أن أتّم فكرته: “هذا ما ندعو له ونسعى إليه، فلا فرقَ في الغاية، إنما التسمية تتعدّد.”
في تلكَ اللحظة، غادر الحديثُ إطارَ المجاملة ودخل مساحةً أعمق.حين يتحدث ابن العلامة هاني فحص عن الهوّية لا يستعرض مفهوماً مجرداً وإنما يستدعي تراثاً كاملاً من الفكر والوعي والعيش اليومي مع الفُسيفُساء اللبنانية.هو يُدرك جيداً أن الهويات لا تُختصر بلون واحد، ولا تُروى بحكاية واحدة.وبقدر ما يعكس الواقع اللبناني من تشابك، يمتدّ صدى هذا التشابك ليشملَ العراق، وقد يشمل بلداناً أخرى، إذ إنَّ التعددَ جزءٌ من البنية الأصلية للبلد.
في العراق، تتجاور اللغات والعقائد والانتماءات، كما تتجاور البيوت على ضفاف دجلة والفرات.الهوية هنا تُصاغُ من طبقاتٍ تمتدّ من التاريخ السومري حتى اللحظة التي نعيشها.كلُّ مكوّنٍ يُسهم في المعنى وكل اختلاف يضيف إلى الصورة بدلاً من أن يُعتّمها.هذه البنية المتعددة تتطلّب وعياً من نوع خاص، يعترف بالمشترك من دون أن يُذيب الفوارق، ويمنحُ لكلِّ صوتٍ مساحته من غير أن يُقدّمه على سواه.
مصطفى فحص، تحدّث عن فكرة "الناجين" والخروج من أزمة الضحية وقال ما معناه: “نحن من نجا من عواصف التاريخ وأحداث مضت، ولسنا ضحايا مجرّدين منها.”
وهذا التعبير يفتحُ نافذةً على منظورٍ مختلف تماماً.الناجون هم من يمتلكون الذاكرة، لكنّهم لا يتوقّفون عند حدودها، ولا يحملون الحطام، وإنّما يعبرون بها نحو المعنى والإرادة لإعادة البناء.بهذا المعنى، تتحوّل التجربة من عبءٍ إلى شرطٍ للنضج، ومن حكايةِ ألم إلى مشروع معرفةٍ واعتراف، وإرادة وطموح، وقد يكون أيضاً تفاؤلاً لنعيش فرحَ القادم.
الهوية المركّبة التي دافع عنها هاني فحص، وذكرها مصطفى، لا تتعارض مع ما أسميه في مقالاتي “الهوية الجامعة”.فالمركّبة تُبنى من التعدّد، والجامعة تتّسع له.الاثنتان تؤمنان بأن الإنسان أكثرُ من تعريفٍ ضيّق وأكثرُ من تصنيفٍ جاهز.كلُّ تجربةٍ تُضيف وكلُّ انتماءٍ يمنحُ بعداً آخر للمعنى.
لبنان، كما العراق، لا يمكن قراءتهُ من زاويةٍ واحدة.في كِلا البلدين، تتراكمُ الروايات، وتتشابكُ المسارات، وتتجاور المآذن والكنائس، والحسينيات والمقامات والبيوت الطينية والشقق الزجاجية.هذا التنوّع، إذا ما حَسُنت إدارته وتحرّرت الأذهان من منطق الإقصاء واتجهت نحو منطق الشراكة، يُشكّل وعداً بمستقبل مختلف.
اللقاءُ القصيرُ في بيروت كان لحظةً مضيئةً وجميلةً وسطَ ضجيج المدن المتعبة.فالهمُّ العراقي والهمُّ اللبناني، تجربتان مشتركتان في وجدان الإنسان الذي يبحث عن معنى وسط الحطام.
الناجون يحملون أسئلتهم ويواصلون الطريق دون أن ينتظروا مَن يُعرّفهم، بل يصوغون تعاريفهم بما عاشوه وما فهموه وما حلموا به.وكلّما اقتربت الهوّيات من هذا الوعي، ابتعدت عن منطق الفرز واقتربت من مشروع المواطنة المتعددة، المتماسكة، المتآلفة.
لم نقدّم لبعضنا وصفةً، ولم نقترح نموذجاً نهائياً، فقط هو خيار العقل،الذي يبدأ من الاعتراف بأننا لم نعد أسرى ما جرى، لكنّنا بالتأكيد شركاء فيما يمكن أن يجري.هكذا فقط يصبحُ القولُ صادقاً:نحن الناجون، ونحن المسؤولون عن الغد.