29 Oct
29Oct


أُثيرَ هذا السؤال في التعليقات التي رافقت منشورات مؤتمر «المرأة في مواجهة التغيرات المناخية» الذي انعقد في قصر المؤتمرات ببغداد، وكأنّ العلاقة بين المرأة والمناخ موضع استغراب أو تساؤل جديد "لماذا المرأة تحديداً ؟ "ومع أنّ هدف المؤتمر بذاته يحمل الجواب عن هذا السؤال بمضامين متنوعة ضمن نقاشاته، غير أنّ صوت هذه النقاشات غالباً ما يبقى داخل القاعة أو لدى من يطّلع على ما يُطرح منه إعلامياً ، في حين أنّ جوهرها يخصّ حياة الناس في الخارج، في البيوت والحقول والشوارع، من هنا كانت محاولتنا أن تمتدّ الفكرة إلى المجتمع، وأن يخرج الحوار من الجدران إلى الميدان على قدر ما هُيئ لنا من استطاعه.
نعم التغيّرات المناخيّة  تمسّ الجميع، رجالاً ونساءً، أرضاً وماءً، لكنّها تترك أثرها الأعمق على المرأة في مجتمعاتنا أكثر من غيرها .عندما تجفّ الأنهر وتقلّ الأمطار، تضطر آلاف العوائل إلى النزوح من مناطقها الجنوبية والوسطى نحو المدن أو الشمال، بحثاً عن مصدر عيشٍ أو قطرة ماء.

ذلك الانتقال يغيّر المكان و يبدّل نمط الحياة كلّه، فينقل الناس من بيئةٍ هادئة يعرفون قوانينها إلى فضاءٍ مزدحم بعاداتٍ مختلفة، ومفاهيم جديدة لا تنسجم دائماً مع ما اعتادوه.

في خضم هذا التحوّل الاجتماعي تكون المرأة الأكثر تأثراً، لأنها تتحمّل عبءَ التكيّف مع كل شيء: البيئة الجديدة، اختلاف العلاقات، تغير القيم، وضغوط المعيشة فضلاً عن ضغوط تربية وتنشئة الاطفال. الفتاة اليافعة التي كانت تخرج إلى الحقل مع أمّها صارت تواجه عالماً آخر داخل المدينة، عالماً تملؤه المغريات والاختلافات وتختلط فيه الرغبة بالخوف… من هنا تبدأ سلسلة التحديات التي تمتدُّ من الزواج المبكر الذي يفرضه الأهل  إلى الانقطاع عن الدراسة، ومن العمل القسري في أماكن غير آمنة إلى أشكالٍ من العنف الأسري، وربّما الانجرار وراء ممارسات أو شبكات إجرامية أو لا أخلاقية تستغلّ الحاجة والضعف.


هذه النتائج ليست أحداثاً منفصلة، إنما حلقات متصلة بجذرٍ واحد هو التغير المناخي، الذي بدأ من الأرض وانتهى بالإنسان. عندما تتبدّل دورة الماء، يتبدّل كل شيء معها: العمل، والدخل، والعلاقات، وحتى صورة المرأة داخل المجتمع. لذلك فإنّ الحديث عن المناخ لا ينبغي أن يقتصر على درجات الحرارة أو الأمطار، إنما على آثاره في نسيج المجتمع وعاداته.


المرأة العراقية تواجه أيضاً فقراً بيئياً واقتصادياً متزايداً ومع تراجع الزراعة، يفقد كثيرٌ من الأسر موردها الأساسي هنا التنبيه أنها لا تقتصر على المزارعين أنفسهم بل على كل المهن المرتبطة بالموارد الزراعية من أصحاب الأسواق والحرف والمعامل المرتبطة بهذه المهنة، فتُدفع النساء إلى أعمالٍ هامشية بلا ضمان ولا حماية. 

هنا يظهر الوجه الآخر لأزمة المناخ، وجهٌ يضع النساء في دائرة الحاجة اليومية، ويزيد من هشاشتهنّ الاقتصادية والاجتماعية.هذه الصورة تدعو إلى وعيٍ جديد يجعل من قضايا المناخ جزءاً من السياسات الاجتماعية، لا ملفاً بيئياً منفصلاً عنها.


وهنا لا بد من إدراك أن المرأة كانت عبر التاريخ حارسة الذاكرة البيئية في العراق ومعززة لهوياته المحلية، هي وعاء الذاكرة التي تحتفظ بخبرة الماء والتربة التي تورّث أبناءها طرق التعامل مع الأرض والعادات والتقاليد. تمكينها اليوم يعني إنعاش تلك المعرفة القديمة، أما تطويرها وإعادة وصلها بالحداثة الزراعية والصناعية التي يحتاجها البلد هو مشروعٍ بيئي ناجح يبدأ من وعيٍ محليٍّ متجذّر يحفظ الوعي التاريخي ويتكيف مع الواقع.


إنّ مواجهة التغيّر المناخي تحتاج إلى وعيٍ عام وتربيةٍ بيئية تبدأ من البيت والمدرسة والإعلام، أما حماية المرأة  ومنحها حق المشاركة في الحقيقة هو حماية لتوازن المجتمع كلّه.


التغيّر المناخي ليس ظاهرة بعيدة عن حياتنا اليومية، ولا قضية تخصّ المتخصّصين في البيئة وحدهم، إنّه حدث يمرّ من بين أصابعنا كلّ يوم، يغيّر الماء والهواء، ويغيّر معه العلاقات والعادات والمصائر، والمرأة، وسط هذا المشهد، النواة التي تحفظ معنى الحياة حين تختبرها الأرض.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن