16 Sep
16Sep


كنتُ أشاهدُ مقطعاً قصيراً لأحدِ اللقاءاتِ الميدانيّة، عُرِض أمام دولةِ رئيسِ الوزراء في احتفاليّةِ اليوم العالميِّ للديمقراطية، كان المذيعُ يسألُ الناسَ عن معنى "الديمُقراطية"، والأجوبةُ بدت مُتردّدةً ومُرتبكة؛ بعضُهم ابتسم مُحرَجاً، وبعضُهم حاول أن يربطَها بالانتخابات أو بحريّة الكلام، وقفتُ عند المشهد متسائلاً: هل عرفنا الديمُقراطية فعلاً؟


إنَّ للاحتفال باليوم العالمي للديمقراطيّة في قاعةِ الخُلد دلالةً رمزيةً كبيرة، فهذه القاعةُ نفسُها شهدت واحدةً من أهمِّ مجازر الدكتاتورية في ثمانينيّات القرن الماضي، حين تحوَّلت إلى مسرحٍ دمويٍّ لإقصاءِ الخصوم السياسيِّين، أن يعود العراقيون اليوم إليها ليحتفلوا بحريّةِ الرأي ويتحدّثوا أمام أعلى هرم الدولة دون خوف، هو بحدِّ ذاته علامةٌ فارقة، تُكثّف المسافة التي قطعها البلد بين الماضي والحاضر.


وبتأملٍ براغماتيٍّ خطر في بالي قولُ الفيلسوف الأميركي جون ديوي: "الديمقراطيّة هي شكلٌ من أشكال الحياة المشتركة".

 جملةٌ قصيرة تختصر المسافة بين المفهوم النظري والتجربة اليومية، بين الشعار الذي نرفعه والسلوك الذي نمارسه.


منذ أكثر من عشرين عاماً والعراقيون يهتفون باسم الديمقراطيّة، يربطونها بالخلاص من الاستبداد وبالقدرة على اختيار مَن يُمثِّلهم، لكنَّ المشهدَ البسيط الذي رأيتُه أثبت أنَّ الكلمة ما زالت عند الكثير شعاراً أكثرَ ممّا تحوّلت إلى وعي.الديمقراطيةُ في جوهرِها لا تقتصر على صناديق الاقتراع ، هي أسلوبُ حياة يبدأ من تفاصيل صغيرة وينمو حتى يصبح نظاماً يحكم الدولة.


عندما "نَحترمُ الدّور في محلِّ البقّالة، نُصغي لرأيٍ مُختلِفٍ في المقهى، نتشارك القرار داخل البيت أو الصفّ"، حينها نكون أقربَ إلى روح الديمقراطيّة ممَّا نكون ونحن نقف أمام صندوقِ انتخاب.

النصوص الدستوريَّة بدورِها لا تكتسب معنًى إلّا إذا كانت انعكاساً لثقافةٍ عامة، فإذا غابت الثقافةُ بقيت تلك النصوصُ حبراً على ورق.


الديمقراطيّة إذن هي تربيةٌ مدنيّة قبل أن تكون آليَّة سياسيَّة، تبدأ في البيت حين يتعلَّم الطفل أنَّ صوتَه مسموع، وفي المدرسة حين يُشارك التلميذُ في اتّخاذ قرارٍ جماعي، وفي الجامعة حين يتدرّب الشباب على النقاش الحرِّ، وفي الإعلام حين تُعرَض الأفكارُ المتنوّعة بلا خوف.

السياسةُ، في هذه الحال، تكون نتاجاً لوعيٍ راسخ، لا مجرَّد صراعٍ على سُلطة.


لقد عشنا تجربةَ الديمقراطيّة السياسية منذ أوَّل انتخابات بعد 2003، لكنَّنا حتى اليوم نُعاني صعوبةَ فهم معناها وتوظيفها بالشكل الأمثل، ومع مرور السنين ارتبطت الكلمة في أذهان كثيرين بالفوضى والمحاصصة، فتشوَّه المعنى بين التجربة المأمولة والواقع المأزوم.

ومع ذلك، فإنَّ العراق ما يزال يتميَّز عن كثيرٍ من دول المنطقة بامتلاكه عمليّةً ديمقراطيّة قائمة، تُتيح فرصةً للتعدديَّة وتداوُل السّلطة بالانتخابات، وهذه ميزةٌ نادرة ينبغي استثمارها بوعي؛ فالمشكلة ليست في وجود الديمقراطيّة بحدِّ ذاتها، بل في ضعف تحويلها إلى ثقافةٍ يوميَّة. إنَّ إدراك هذه الفرصة وتطويرها كفيلٌ بأن يجعل التجربة العراقية أكثر رسوخاً ونضجا.


غير أنَّ جوهر الديمقراطيّة لا يُقاس بالتجربة السياسيّة وحدَها، وإنَّما بمدى حضورِها في المجتمع نفسِه.

إن لم يتحوَّل المفهوم إلى ممارسةٍ يومية وثقافةٍ عامة تُترجَم في السلوك، ستبقى أيُّ تجربةٍ سياسية عاجزةً مهما تعدَّدت الانتخاباتُ ومهما كَثُر الحديث عنها.

نحن بحاجةٍ إلى وعيٍ جديدٍ يُعيد الاعتبار للثقافة العامة، يلتقط التفاصيلَ الصغيرة التي تصنع معنى المشاركة، ويجعل من العيش المشترك شبكةً يومية متماسكة، عندها فقط تتحوّل الديمقراطيّة من كلمةٍ مُلتبسة إلى واقعٍ إيجابيٍّ يلمسُه الناس في حياتهم.

المشهدُ الذي عُرِض كان مرآةً لخللٍ معرفيٍّ يعيشهُ المجتمع، ليبقى السؤالُ البسيط: "ما هي الديمقراطيّة؟" عصيّاً على كثيرٍ من الألسُن، وربما هنا تكمن مسؤوليتُنا جميعاً: أن نُعيد الكلمة إلى معناها الأول، حياةً مشتركة يعيشُها الناسُ قبل أن تكون نظاماً يحكمُهم.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن