في الثقافة العربية الحديثة، ثمة مفارقة صامتة تمر تحت ركام الشعارات القومية والحداثية واليسارية، لا يُشار إليها غالبًا إلا همسًا أو تهكّمًا . إنها مفارقة المثقف الشيعي الذي يخجل من اسمه، ويخجل من أهله، ويخجل من التاريخ الدموي الذي ينتمي إليه، لا لأنه يدينه، بل لأنه يُشعره بالعبء، بالإرث المربك، وبالمتاهة .
هذا المثقف، مهما علا صوته في الدفاع عن “المهمّشين” و”المقهورين”، يقف حائرًا أمام مظلومية جماعته، لا يدافع عنها ولا يتبرأ منها، بل يُحيلها إلى غبارٍ تاريخي، أو يستبدلها بمظلومية أوسع . مظلومية العرب، أو الطبقة، أو الفقراء، أو العالم الثالث.
إنه يذوب في الكليّ هربًا من الخصوصيّ، لأنه يرى في المذهب عبئًا أخلاقيًا وثقافيًا لا يليق بـنخبته .
ولعل منبع هذه الحيرة هو عقدة الصورة المشوّهة التي رُسمت صورة الشيعي في الوعي الجمعي العربي كـ”تابع لإيران”، أو “مذهبي طقوسي”، أو “كائن عاشورائي”، صار الانتماء الشيعي ، بالنسبة لكثير من مثقفي الطائفة ، عبئًا يجب التخفّي منه .
فالهوية المذهبية، بدل أن تكون نقطة انطلاق للمعرفة، تُصبح تهمة يجب التخلّص منها، أو على الأقل مواراتها خلف يافطات براقة .
ولهذا يتّخذ بعضهم مسافة مريبة من تاريخه الشخصي والجمعي .يتحدث عن كل شيء… إلا كربلاء. يمدح المظلومين في أمريكا اللاتينية، وينتقد الاستبداد السني، لكنه يكتب عن علي بن أبي طالب وكأنه أسطورة غامضة في متحف الذاكرة .
الكاتب العراقي هادي ياسين، الذي ظل لسنوات يقدم نفسه كيساري قوميّ، مثال على هذا الإحراج المذهبي المبطّن .
في كتاباته، لا نكاد نجد أثرًا لجذره الشيعي، بل نجد حرصًا شديدًا على تصوير انتمائه الطبقي واليساري فقط .
في مناخات ما بعد 2003، حين صار الخطاب الشيعي حاضرًا، لم يختر هادي ياسين نقده كجزء من مشروع تنوير داخلي، بل تهرّب منه كما لو أنه عار .
لم يكن الموقف موقف نقد معرفي، بل موقف نفي نفسي .هناك فرق شاسع بين المثقف الذي يُعيد قراءة مذهبه ليحرّره، وبين المثقف الذي يُحاول محو أثره كمن يُخفي وشمًا قديمًا .
الناقدة العراقية فاطمة المحسن قدّمت نفسها كمثقفة حداثية مدافعة عن قيم التنوير، وهذا مشروع نبيل بحد ذاته، لكنها في كثير من محطاتها اتخذت موقفًا ملتبسًا من الهوية الشيعية .
ورغم قيمتها البحثية، يُلحظ نوع من التبرّؤ من الطابع العاطفي أو الطقوسي للثقافة الشيعية، وكأنها تسعى لنقلها من سياقها الأصلي إلى مشهد ثقافي نظيف، معلمن، بلا دموع ولا نواح .
بدلاً من احتضان هذا الإرث وتمريره عبر مجرى النقد الحداثي، كانت المقاربة أقرب إلى التعقيم .وهذا شكل من أشكال الاغتراب المزدوج ، اغتراب عن الذات، واغتراب عن التاريخ .المثقف الحقيقي لا يهرب من جذره، ولا يغرق فيه .
بل يُفكّكه، يوسّعه، يحوّله إلى جسر نحو الآخر . ومشكلة مثقفي الشيعة، في كثير من الأحيان، أنهم يعيشون في صراع خفي بين هوية مرفوضة اجتماعيًا ونخبوية معزولة ثقافيًا .الحل لا يكون في التنصّل، ولا في الانغلاق .
بل في إعادة تعريف الهوية الشيعية ، لا كحالة مذهبية منغلقة، ولا كعُقدة نفسية مستترة، بل كرافد إنساني وفلسفي عميق .
من عليّ بن أبي طالب إلى الحلاج، ومن نصوص العزاء إلى أشواق العدالة، ثمة ما يستحق أن يُروى لا بخجل، بل بفخر… دون أن يتحول إلى استعلاء أو ثأر .
فاروق الرماحي