09 Oct
09Oct


في قلب العراق، ولِدت الحضارات ومرّت القوافل القديمة وربطت الشرقَ بالغرب، وصنعت واخترعت الوسائلَ التي غيّرت وجهَ التاريخ، نفتقدُ اليوم ما هو أبسط من تلك الأمجاد وأكثر التصاقاً بواقع العالم المعاصر: "مدينة مؤتمرات". 

ليست الفكرةُ هنا عن قاعةٍ أنيقةٍ أو فندقٍ فاخرٍ، أو مبنًى …نتكلّم عن مشروعٍ متكاملٍ يضع العراقَ على خارطةِ الاقتصاد والسياسة والسياحة في آنٍ واحد.

مَن ينظر إلى المدن العالمية الكبرى يُدرك أنَّ المؤتمرات لم تَعُد مجرّدَ تجمعاتٍ عابرة، إنّما صناعةٌ قائمةٌ بذاتِها تعتمدُ إستراتيجيةً مُخططةً بما يُسمّى "سياحة المؤتمرات".


كلُّ مؤتمرٍ يعني مئاتٍ أو آلافَ الزوّار، وكلُّ زائرٍ يحملُ نسبةً محتملة من التطوير بجانبٍ ما أو اتفاقيّة، أو نكتفي بما يحمله من جانبٍ معنويٍّ أو دلالاتٍ سياسية، هذا على المستوى العامّ، أمّا الخاصّ، فالمؤتمرُ يعتمدُ إنفاقاً يبدأُ من تذكرة الطائرة ولا ينتهي عند وجبة الطعام أو الهدايا المحليّة، والنشر الدعائيّ بقصدٍ أو دونه، إنّها حركةُ مالٍ واقتصادٍ تُنعش الأسواق وتخلقُ فرصاً للشباب، وتجعلُ من المدينة المضيفة عقدةً دوليّةً لا يمكنُ تجاهلُها.


العراق، بما يملكه من إرثٍ حضاريٍّ وموقعٍ جغرافيٍّ استثنائيٍّ، أحقُّ من غيره بمثلِ هذا المشروع.

بغدادُ كانت يوماً عاصمةَ القرارِ في العالم الإسلاميّ، والنجفُ وكربلاءُ تستقبلان ملايينَ الزائرين سنويّا، والبصرةُ تُطِلُّ على الخليجِ بلسانٍ مائيٍّ يصلُ العالمَ، ونينوى تعودُ لأمجادها، وكلُّ مدينةٍ عراقيةٍ فيها ما يُميّزُها.

كلُّ هذه المدن مرشّحةٌ لأن تحتضن مشروعاً بهذا الحجم، شرطَ أن يُفكّرَ فيه كرؤيةٍ وطنيّةٍ طويلة الأمد، لا كمبنى يُضافُ إلى رصيدِ البنية التحتية المجمّدة.


مدينةُ المؤتمراتِ بقاعاتٍ متعدّدةِ الأحجامِ تستوعبُ قمماً سياسيةً ومجتمعيةً ومعارضَ تجاريةً في الوقتِ نفسه، فنادق متّصلةٌ بوسائل نقل سريعة من المطار مباشرةً، مراكز ترجمةٍ ولغاتٍ متقدّمة، شبكات اتصالاتٍ آمنةٍ وسريعة، وخدمات لوجستية تليقُ بدولةٍ تريدُ أن تعرضَ نفسها بوصفِها قادرةً على استقبالِ العالم، فضلاً عن الحدائق والمطاعم.


نتحدّثُ هنا عن "مهابة دولةٍ وإبراز دورِها"، تنقلُ المشهدَ بأعينِ ما يملكه العراقُ من فرصٍ وتعاون، البعدُ الجيوسياسيّ في مدينةِ المؤتمراتِ لا يقلُّ أهميةً عن بُعدِها الاقتصاديّ، فالذي يملكُ القدرةَ على جمعِ الفرقاء تحت سقفٍ واحد، يملكُ أيضاً فرصةَ التأثيرِ في مخرجاتِ الحوار.


من هنا تتحوّلُ المدينةُ إلى ما يشبهُ المنصّةَ العالمية، حيثُ تُصاغُ التفاهمات وتُبنى التحالفات وتُعقدُ الصفقاتُ الكبرى.


إنّها دبلوماسيةٌ ناعمةٌ لا تحتاجُ إلى جيوشٍ أو صفقاتٍ سياسيةٍ شاقّة، إنّما إلى حجرٍ يُبنى بعقلٍ وإرادة، ولا شكَّ أنّها موجودة، فضلاً عن الإدارةِ الرشيدةِ برؤيةٍ حديثةٍ تعتمدُ ما توصّلَ إليه العالمُ في هذا المجال.


ولكي لا يبقى الحديثُ طموحاً، فإنَّ الحاجةَ اليوم مرتبطةٌ بواقعٍ ملموسٍ يضعُنا أمام فرصةٍ ذهبيةٍ، فالعاصمةُ التي ستستقبلُ الوفودَ العربية والعالمية تحتاجُ إلى هذا المشروع المكمّل للمشاريع التنموية التي ميّزت السنوات الأخيرة في ظلِّ الاستقرارِ الأمنيّ الذي نَنعمُ فيه، ومثلُ هذا المشروع هو ما يُعزّزُ ذلك.


كذلك، الأثرُ الاجتماعي والثقافي لا يقلُّ أهميةً، آلافُ فرصِ العمل ستُفتحُ أمام الشباب العراقي: مترجمون، إعلاميّون، خبراءُ تقنيةٍ، موظّفو فنادقٍ، مرشدون سياحيّون، وحتى الحرفيّون الذين يقدّمون منتجاتِهم كهدايا للوفود، كلُّ مؤتمرٍ هو دورةُ حياةٍ كاملةٌ تشاركُ فيها طبقاتُ المجتمع، فيتعلّمُ العراقيّون من الاحتكاك المباشر، ويُصدّرون للعالمِ أيضاً صورةً مختلفةً عن بلدِهم.


لا يمكنُ إغفالُ أنَّ العالم اليوم يقيسُ الدول بقدرتِها على إدارة الفعاليّات الكبر،فمن يملك مطاراً حديثا، وميناءً متطوّرا، ومدينةَ مؤتمراتٍ متكاملة، يصبحُ في نظرِ المستثمرين دولةً جديرةً بالثقة.


العراقُ الذي يسعى لجذبِ الاستثمارات وإعادةِ بناءِ اقتصادِه، يحتاجُ إلى هذا النوع من المشروعات كبرهانٍ عمليٍّ على قدرتِه في التنظيمِ والإدارة.
ربّما يسألُ البعضُ: ألسنا بحاجةٍ أوّلاً إلى معالجةِ أزماتِ الكهرباء والماء والطرُق؟

نعم، لكنَّ مدينةَ المؤتمراتِ ليست منفصلةً عن هذه الخدمات، إنّما هي حافزٌ لتطويرِها، فالمشروعُ سيضغطُ باتجاهِ تحسين البُنى التحتية في محيطِه، وسيجعلُ من تحديثِ الخدمات ضرورةً وطنية.


"مدينةُ المؤتمرات" مشروعُ هُويّةٍ وطنيّةٍ جديدة، هُويّةٌ تقولُ للعالم إنَّ هذا البلدَ الذي عرفَ الحروب والاضطرابات، قادرٌ على أن يجلسَ مجدّداً في موقع المركز، وأن يفتح أبوابَه للحوار بدلاً من الصراع، وللتعاونِ بدلاً من التناحر.

الرسالةُ واضحةٌ، وكاتبُ هذا النصِّ على ثقةٍ عاليةٍ بالاهتمام بها من قِبلِ من يقودُ التنميةَ رغم المعوّقات: حينَ نفكّرُ في المستقبل، يجبْ أن نضعَ مدينةَ المؤتمرات في قلب الخطة.فمن غيرِ المعقولِ أن تكونَ مؤتمراتُ العراقِ الرسميةُ في الفنادق.


"مدينةُ المؤتمرات" استثمارٌ طويلُ الأمد، وموردٌ اقتصاديٌّ متجدّد، وأداةٌ جيوسياسيةٌ تُعيدُ للعراقِ دورَه الطبيعيّ.لا نحتاجُ أن نخترعَ جديداً، فالنماذجُ أمامنا، لكنَّنا بحاجةٍ إلى أن نؤمنَ بأنَّ العراقَ يستحقُّ أن يكون عقدةَ العالم لا هامشَه.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن