15 Nov
15Nov

مع ثورة الذكاء الاصطناعي وتنامي السيطرة الالكترونية، هل ما يزال القانون قادراً على أن يضبط الغضب ويعيد للعقل هدوءَه؟تظهر هنا أهمية وجود قراءةٍ عامة أو معرفة تأثير "ثقافة الإلغاء"  على مسار العقوبة.


العدالة ميزانُ الحياة، بها تستقيم المجتمعات وتُقاس أفعالُ الناس بحدودها من غير تأثير ، فهي  في جوهرها تقوم على التثبّت قبل الحكم وعلى الدليل قبل الإدانة.

مع أنّ هذا المفهوم قانوني لكنّه قبل ذلك قيمةٌ إنسانية نظمّها العقل وشرّعها الدين لتصون الكرامة وتحمي الحق.لكنّ هذا الميزان لم يَسلم من اضطراب الزمن الجديد، إذ تراجعت مكانةُ الدليل أمام سرعة الانفعال وصار الاتهامُ في أحيانٍ كثيرة حكماً نافذاً والعقوبةُ تسبق التحقيق.

يُطلَق الحكم من خلف شاشة وتتحوّل القصة إلى موجةٍ من الغضب العام تطلق الاحكام المسبقة فلا تُبقي للعدالة صبرَها ولا للإنصاف طريقه.


في المشهد الذي نعيشه اليوم، يكفي أن تُنشَر تهمةٌ في فضاء التواصل حتى تنفتح أبواب الاتهام على مصراعيها، تُصبح الكلمة سيفاً والصورة دليلاً ويُدان الإنسان بقدر ما ينتشر خبره لا بقدر ما يثبُت فعله.ومع كلّ اتهامٍ، تتوالد آلاف الأحكام التي لا يُراجعها أحد، لأنَّ الجمهور أصبح القاضي والجلّاد في آنٍ واحد.بهذا التحوّل، تفقد العدالة معناها وتتحوّل إلى انتقامٍ جماعيٍّ متسعٍ لا يُحدّ بالفعل ولا يتوقف عند الفاعل، فالعقوبة اليوم لا تُطال المتَّهَم وحده، بل تمتدُّ إلى عائلته، إلى مَن يجاوره، وحتى إلى عشيرته أو مؤسسته، وكأنَّ الخطيئة تنتقل بالمصاحبة لا بالفعل.

تتضاعف العقوبة بلا معيار وتغدو العدالة ميداناً للثأر الاجتماعي أو السياسي أو الاقتصادي أكثر منها فضاءً لإحقاق الحق.


العدالة الحقيقية لا تنفصل عن الرحمة ولا تتعارض مع الصبر، فالقانون وُضع ليمنع الانفعال لا ليغذّيه والدين جاء ليُقيم ميزان الحكمة لا ميزان الغضب. لكنَّ المجتمعات التي تضعف فيها الثقة بمؤسساتها تميل إلى تنفيذ العدالة بيدها فتستبدل التحقيق بالتشهير، وتستعيض عن القضاء بالحشود وتُحوِّل الشكَّ إلى يقينٍ متسرّع لا عودة منه.الخطر في ذلك لا يقتصر على الأفراد وإنما يهدد فكرة الدولة نفسها، فعندما يصبح الرأي العام بديلاً عن القانون تضيع الحدود بين العدالة والانتقام، ويُصبح كلّ اختلافٍ قابلاً للتحويل إلى قضية وكلّ قضيةٍ مرشّحة للتحوّل إلى محكمة مفتوحة بواسائل التواصل ..

عندها يتراجع القانون أمام ضغط الجموع وتُستبدل المحاسبة بالعقوبة الفورية فيتقدّم الغضب على العقل، والفضيحة على الحقيقة.


العدالة هي من تملك التوازن بين الحق والواجب، بين الدليل والحكم.أمّا ما نراه اليوم فهو اندفاعٌ يُسقط هذا التوازن، ويحوّل الخطأ الفردي إلى قضية رأيٍ عام تُستثمر سياسياً وتُضخَّم اجتماعياً، وبهذا نفقد جوهر الفكرة التي أرادها الدين والقانون معاً: أن يكون الإنسان مسؤولاً عن فعله، لا عن انطباع الناس عنه.


إنَّ أخطر ما في الانتقام أنّه يُرضي الغضب ولا يُنصف المظلوم.عندما تتحوّل العدالة إلى مرآةٍ للعاطفة، يفقد المجتمع قدرته على التمييز بين الحقّ والهوى.فالعقوبة التي تُنفَّذ خارج القانون تزرع خوفاً جديداً في نفوس الناس من أن يُحاكَموا في أيّ لحظة، بلا دليلٍ ولا دفاع ، فيضيع الأمن المعنوي الذي تقوم عليه المجتمعات وتحوّل الحق إلى صوتٍ بين أصواتٍ غاضبة لا تسمع أحدا.وهكذا تتآكل فكرة العدالة ببطءٍ حتى لا يبقى منها سوى قشرتها، ويُستبدل الإنصاف بالثأر تحت أسماءٍ جديدة.


من العدالة إلى الانتقام مسافةٌ قصيرة، لكنها كافية لتبدّل ملامح الإنسان حين يغيب عنها الوعي، وما لم يُستعاد هذا الوعي، سيبقى الحكم جماهيرياً والعقوبة جماعية، وستظلّ العدالة معلّقة بين القانون والدين، تنتظر من يعيدها إلى ميزانها الأول؛ إذ يُحاسَب الفعل لا الظنّ ويُقاس الجزاء بقدر الحقيقة، لا بقدر الغضب.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن