نصير العلي
لطالما شكلت نظريات الجغرافيا العسكرية الكلاسيكية حجر الأساس في صياغة العقائد الدفاعية للدول الكبرى، من ألفرد ماهان في البحار، إلى ماكندر في البر، ودوهيه في الجو. كانت هذه النظريات بمثابة الكتاب المقدس لكليات الحرب، ومرجعية مراكز الدراسات الاستراتيجية لعقود طويلة. غير أن السنوات الأخيرة، وتحديدًا ما جرى في الحرب الروسية الأوكرانية، ثم الحرب الأخيرة بين إيران والكيان الاسرائيلي، والتي كشفت الغطاء عن تحوّل نوعي يتجاوز التكتيك نحو تغيير بنيوي في فلسفة الصراع نفسه.
إننا نعيش الآن عصر “نسف الجغرافيا العسكرية الكلاسيكية” على يد تكنولوجيا المسيّرات والصواريخ الذكية، وهو تحول يجعلنا نطرح سؤالاً وجوديًا: هل يجب إعادة النظر كليًا في تدريس تلك النظريات الكلاسيكية؟ وهل باتت الطائرة دون طيار تتفوّق على حاملة الطائرات؟ والصاروخ الدقيق على الفرقة المدرعة؟
أولاً: سطوة النظريات التقليدية… ونهايتها المحتملة 1. ماهان (Alfred Mahan) رأى أن السيطرة على البحار تعني السيطرة على العالم، وأن الأساطيل الكبرى هي مفتاح النفوذ الإمبراطوري. 2. ماكندر (Halford Mackinder) اعتبر “قلب العالم” في أوراسيا هو مركز السيطرة العالمية، وأن من يسيطر على اليابسة يسيطر على العالم. 3. دوهيه (Giulio Douhet) آمن بأن السيطرة على الجو هي من ستحسم الحرب، ودعا لاستراتيجية “الضربة الجوية الشاملة”.
كل هؤلاء أسسوا لقرنٍ كامل من بناء الجيوش التقليدية، وصُرفت تريليونات الدولارات في بناء حاملات طائرات، وقواعد جوية، وجيوش مدرعة.لكن… ماذا حدث فجأة في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين؟
ثانيًا: تكنولوجيا المسيرات والصواريخ الدقيقة… انقلاب المفهوم العسكري
بدأت المفاجأة من ساحات أوكرانيا: • استطاعت أوكرانيا بمسيرات تركية الصنع مثل Bayraktar TB2 أن تضرب الدبابات الروسية وتشل حركتها دون تدخل مباشر من الطائرات الحربية. • في روسيا، دخلت المسيرات الانتحارية من نوع Lancet إلى ساحة المعركة كعنصر تفوق استراتيجي رخيص وفعال.
ثم جاءت الحرب ما بين طهران والكيان ، التي أكدت على هذا التحول: • شنت إيران أعنف هجوم بالصواريخ والمسيّرات الدقيقة على أهداف إسرائيلية في العمق، وسط فشل واضح لوسائل الدفاع الجوي في اعتراضها بشكل كامل. • أشركت إيران أذرعها في استخدام هذا النوع من الأسلحة، مما وسّع مفهوم الجيوش بالوكالة التي تملك “تفوقًا تقنيًا دون جيوش”.
هذا التحول دفع حتى الولايات المتحدة – عرابة نظرية القوة الجوية – إلى إعادة هيكلة استراتيجياتها الدفاعية، والتركيز على: • تطوير أسراب ضخمة من المسيّرات القتالية واللوجستية. • دمج الذكاء الصناعي والتحكم الآلي في أنظمة الردع الصاروخي. • تقليص الاعتماد على حاملات الطائرات العملاقة لصالح قواعد مرنة ذات مسيرات وصواريخ.
ثالثًا: سقوط مفاهيم التفوق البحري والبري والجوي الكلاسيكية • لم تعد السيطرة على “الممرات البحرية” كفيلة بفرض الهيمنة، فالمسيرة قد تنطلق من قارب خشبي وتضرب حاملة طائرات. • لم تعد “قواعد السيطرة البرية” مرتبطة باحتلال أراضٍ، بل بالقدرة على تعطيل القيادة والسيطرة لدى العدو بضربة دقيقة. • لم تعد السيطرة الجوية مرهونة بطلعات الطيران، بل بمن يمتلك سربًا ذكيًا من المسيّرات ذاتية القرار.
أي أن “نظريات النفوذ بالانتشار” انهارت أمام “عقيدة الردع بالذكاء الاصطناعي”.
رابعًا: هل حان وقت دفن النظريات الكلاسيكية؟
الإجابة ليست بنعم قاطعة، ولكن: • يجب إعادة قراءة تلك النظريات ضمن سياقها التاريخي، لا الإيمان بها كنصوص مقدسة. • يجب تدريس تطورها النقدي في ظل المتغيرات التقنية، وربطها بجيل جديد من النظريات مثل “حرب الشبكات”، و”الحرب الهجينة”، و”الردع المتنقل”.
بمعنى أدق: ماهان وماكندر ودوهيه لا يُلغون، ولكن يُراجعون، ويتم مواءمتهم مع عالم لم تعد فيه “قواعد الاشتباك” قائمة على الجغرافيا، بل على “البرمجيات والخوارزميات”.
خامسًا: ملامح العقيدة العسكرية الجديدة
في ضوء التجارب الحديثة، تبرز مجموعة من الخصائص التي تؤطر الفكر العسكري الحديث.،،،،،،،،،،العقيدة الحديثة (ذكية)- التفوق في السرعة والذكاء- تعطيل الاتصالات والسيطرة - الاستنزاف بالمسيّرات الدقيقة- الحرب الهجينة غير المتماثلة.
العقيدة القديمة (كلاسيكية)- التفوق العددي والتسليحي- احتلال الأرض والموانئ- الضربة الجوية الشاملة - المعركة التقليدية.
وعليه لم تعد الحروب كما كانت، ولم تعد الجغرافيا كما رسمها ماكندر، ولا البحار كما تصورها ماهان، ولا السماء كما حلم بها دوهيه. إن حرب المسيّرات والصواريخ الذكية أعادت تعريف القوة، وأصبحت الكلفة والفاعلية والدقة هي معايير التفوق، لا عدد الدبابات وحاملات الطائرات.
ومع هذا، فإن ما يجري ليس موتًا للنظريات الكلاسيكية، بل إعادة تدوير لها في قالب جديد، يتطلب من مراكز الدراسات والاستراتيجيات أن تتخلى عن هيبتها الأكاديمية وتواكب الواقع المتغير بسرعة الضوء.
هل نحن في لحظة ولادة “كلاوزفيتز جديد” للقرن الحادي والعشرين؟
ربما يكون ذلك هو التحدي الحقيقي الذي يواجه المفكرين العسكريين اليوم.