05A2EDD17376135DD5B5E7216D8C98DB
08 May
08May


منتصر صباح الحسناوي
في العراق، هناك حبلان سرّيّان يشدّان الأرض إلى ذاكرتها، ركيزتان للهوية الحضارية قبل أن تكونا عراقية، نهران من طين الروح يجريان في الأرض كما يجريان في الوجدان.


يوماً ما زرتُ مصر، وحين وقفتُ أمام النيل لأوّل مرة، وجدتني قبالة نهرٍ عريض كأنه زمنٌ ساكن، ينساب في الأرض بوئامٍ غريب. قلت لصاحبي وأنا أحدّق في هدوئه المهيب: “حلو النيل، عظيم!”فابتسم وقال بثقة المصري المحب: “من يشرب من مية النيل… يرجع تاني.”لم أفهم المعنى حينها لكنّي عدتُ بعدها مراتٍ إلى القاهرة، كما لو أن بيني وبين ذلك النهر عهداً لم أدرِ متى وقّعته.


كانت تلك الزيارة باباً لسؤال ظلّ يتردّد في داخلي:والفرات؟سؤال مطلق، يتجاوز المعلومة إلى الإحساس، يتجاوز العقل إلى الغيرة الغريزية التي يحملها العراقي من دون أن يتعلّمها.ذلك النهر الذي لم أحتج أن أزوره لأعرفه، لأنّه ببساطة يسكنني قبل ولادتي.الفرات في الذاكرة العراقية معلمٌ جغرافي له أثرٌ حيّ في النفس. لا يُفاجئ الزائر من حيث المظهر ولا يُقدّم نفسه بفخر، لكنه يتغلغل في الروح ببطء ويوقظ شيئاً لا اسم له، كأنك تعرفه من زمنٍ لم يُكتب.
في حضارات وادي الرافدين،  كان الفرات تجسيداً لفعل الخلق ذاته ، اذ تروي الألواح السومرية أن الإله “إنكي” هو من شقّ مجراه من باطن الأرض وجعله يسيل بين السهول ليمنح الحياة للبشر.وفضلاً عن كونه الشريان الرئيس للحياة اعتُبر صلة الوصل بين الأرض والسماء ومسرحاً للإلهام.وكان الفرات هو النهر الذي يحيط بـ”قدس الأقداس” في مدينة نيبور حيث بُني المعبد الأعظم لإله السماء “إنليل”، تلك البقعة من الارض التي شهدت تنصيب ملوك الحضارات القديمة السومرية والأكدية، والبابلية بمراحلها… والتي كانت مهد الميثولوجيا والروح.ففي ملحمة گلگامش، كان الفرات حارساً لسرّ الحياة يقود البطل نحو نبتةٍ مخفيّة تمنح من يقتنيها الشباب الأبدي.


والفرات كان حاضراً في التقاليد الدينية كنهرٌ من الجنة .وحين كانت كربلاء، ومُنع ماؤه عن الحسين (ع) وأهل بيته تحوّل إلى رمزٍ للعطش والخذلان.في كلّ عاشوراء، يعود اسمه على الألسنة، مرآةً لما جرى حيث تُستعاد عنده مشاهد البطولة والمبدأ والفقد.


وفي الفولكلور، نُسج حول الفرات حضورٌ دائم في العرافة والبركة والنذور.يُقال في بعض القرى إن من يغتسل بمائه قبيل الفجر تصدق رؤياه، وتُروى عنه الكثير من الحكايات.
ودجلة؟يمشي بهدوء خلف القصيدة، يبحث عن قافيةٍ تليق ببغداد.كان نهر دجلة  جسر القوة والخلود للاشوريين في نينوى، فيما كان حاضراً في بعض الديانات القديمة كرمزٍ للتطهير والتجدد لا سيّما عند أتباع الديانة الصابئية المندائية، الذين يعدّون مياهه مقدسة، ويتّخذونه مهبطاً للروح ومسرحاً للغُسل الطقسي في مناطق تواجدهم الرئيسة في العمارة وبغداد . وفي نقطة هي الاقرب إلى جانب الفرات يمضي دجلة  بهدوءٍ متماسك، يعكس صورة الحضارة ولا سيما بطابعها الإسلامي، حين كانت قصور الخلفاء تستحمّ بنوره والمجالس تُنشد الشعر على ضفّته.


وفي ليالٍ معينة، يعود دجلة فضاءً للأمنيات، حين تُطلق فيه شموع زكريا الصغيرة، عائمةً على ألواح الطين أو الصحون الورقية، يشعلها الناس حبّاً ورجاءً، في مشهدٍ يمتزج فيه الضوء بالماء، والإيمان بالبساطة، والطفولة بالموروث.تلك الشموع تنساب مع التيار كأمنيات مؤجلة، يحمِلها النهر ويعرفها كما لو أنه كتبها من قبل.


يبدو دجلة كنهرٍ يعرف أيضاً مكانته، ويُدرك أنه مرآة لمدينة لا تُنسى.لم تُنسج حوله طقوس الغيب كما الفرات، لكنه ظلّ شامخاً، يحتضن قلب العراق ويغذّيه بالمعنى والثقافة.
من يقف أمام أحد الرافدين قد لا يشعر بالإعجاب اللحظي، لكنه يشعر بشيءٍ أغرب: ألفةٌ مباغتة، تعيده إلى شيء يعرفه دون أن يراه من قبل.نهران يشكلان هوية عصيّة على التغيير، يمرّان في الوجدان كما تمرّ القصص العتيقة التي لا نعرف متى سمعناها أول مرة.

تعليقات
* لن يتم نشر هذا البريد الإلكتروني على الموقع.
حقوق النشر © 2025 جميع الحقوق محفوظة - جريدة المواطن