منتصر صباح الحسناوي
تصادف أن نكون"أنا وابني أحمد" في محلٍّ تجاريٍّ في شارع الاستقلال وسط إسطنبول، حين دخل ثلاثة أشخاص يتحدّثون بإنكليزيةٍ أميركية.
سألوا صاحب المحل عن شيءٍ، لكنَّه لم يتمكن من التفاهم معهم، فتدخّل أحمد، وتحدّث معهم بلهجتهم بثقة، سألوه: أين تعلّمتَ الإنجليزية؟أجابهم قائلاً: في العراق. تأمّله أحدهم قليلاً ثم قال بابتسامةٍ باهتة: غريب… لم أظنّ أن التعليم في العراق بهذه الجودة!. ردّ أحمد بهدوء: هذا لأنكم لا تسمعون عنّا إلّا في نشراتِ الحرب.
رفع الرجلُ رأسه، ولم يجد ما يردُّ به.هذا المشهد الذي يتكرّر في أماكنَ كثيرة حول العالم، يكشف عن صورةٍ جاهزةٍ يحملها الآخرُ عنك قبل أن تقول شيئاً وربما قبل أن تدخل المكان.
لا تنشأ هذه الصورة دائماً من عداءٍ أو كراهية، لكنها لا تخلو من أثرٍ متراكم، فعندما تنتشر روايةٌ واحدة أو صورةٌ نمطية ولا تُقابَل بروايةٍ مقابلة، فإنّها تترسّخ وتتحوّل إلى واقعٍ بديل.
الصور التي تُرسم عن الهوية العربية في مرايا الآخر جاءت من مصادرَ متعددة: نصوص المستشرقين، مشاهد الإعلام، إنتاجات السينما العالمية.
لم تُواجَه هذه الصورة بخطابٍ داخليٍّ واضح المعالم مما أتاح لها مساحةً للثبات والانتشار.
تُظهِر هذه الصورة الإنسان العربيَّ على هيئةٍ متقلّبة: بدويٌّ يعيش في الصحراء، غنيٌّ ساذج، متديّنٌ متشدّد، مستهلكٌ غير منتج أو مجرّد ضحية حرب. وتتكرّر هذه الصور حتى تصبح مألوفة في الخارج وأحياناً في الداخل أيضاً.
هذا التراكم جعل كثيراً من المجتمعات تتقبّل هذه الصور وتتفاعل معها كما لو كانت واقعاً حقيقيّاً لتتشكل بذلك أزمةٌ داخلية صامتة، تظهر في طريقة النظر إلى الذات وفي مستوى الثقة بالنفس وفي الميّل إلى تبرير كلّ شيء، حتى أبسط العادات اليومية.
في حياة المهاجرين والمغتربين تتجلّى هذه الحالة بوضوح، تُطرح عليهم الأسئلة باستمرار: عن أسمائهم، دياناتهم، عاداتهم، لباسهم، وحتى طريقتهم في التفكير، فتتحوّل عندها الهوية الشخصية إلى مادّةِ شرحٍ يوميّ، لأنّ الآخر لا يرى الصورة كاملة.
المسؤولية تبدأ من الداخل، فعندما تُترَك المساحة فارغة أو تُملَأ بالتنظير والفخر والخيال بعيداً عن الواقع، يتولى الآخر كتابة الرواية كما يراها، يملأ الفراغ بتخميناته أو بما سمعه أو بما توهّمه صحيحاً.
أمّا الهوية النشطة، فهي التي تملأ هذه المساحة بالفعل لا بالقول وبالقيم لا بالشعارات وبخطابٍ واضحٍ لا دفاعيٍّ ولا تبريريّ وحينها تكون المبادرة بيد صاحبها وتصبح الصورة القادمة من الداخل أصدق من أي انطباعٍ خارجي.
المشكلة لا تتوقف عند ما يُقال انما تمتد إلى ما يُهمَل، عندما تُترك الصورة دون مراجعة لتتحوّل إلى حقيقةٍ متداولة وتُعامل على هذا الأساس.
يظهر هنا نوعٌ من الانكماش الذاتي؛ بعض الأشخاص يُخفّفون من مظاهر انتمائهم ويتردّدون في ممارسة عاداتهم أو يعيدون تشكيل ذواتهم بما يتناسب مع “النظرة العامة” وهذا المسار لا يفتح أبواب الاحترام ولا يورث الطمأنينة.
الهويّة القويّة يظهر تأثيرها بالممارسات اليومية، تُرى في طريقة الكلام وفي المعاملة وفي الاحترام المتبادل وفي الحضور الثقافي والفكري، لا تحتاج إلى تأكيد لأنها راسخة في السياق الحي، تتكوّن من الداخل، وتعبّر عن نفسها من خلال الاستمرارية والتماسك.
المجتمعات التي تكتب قصّتها بنفسها تكون قادرة على صياغة موقعها في العالم. وما دامت الهوية تُبنى بفعلٍ واعٍ ومتراكم فإنها قادرة على تفكيك الصور المعلّبة وتقديم ما هو أقرب إلى الواقع وأحقُّ بالتمثيل.عندما تُترك الصورة الجاهزة دون مساءلة يمكن ان تتحوّل إلى قيدٍ خفيّ.
أما فهم الذات فإنه يحتاج إلى وعيٍ بتاريخه وصدقٍ في قراءة التناقضات وإيمانٍ بما يختزنه من طاقة للنهوض.