كلمتان تُنطقان ببرودٍ ظاهرٍ، لكنّهما تختزنان كلَّ معاني الاستخفاف، وتكفيان لهدم جبلٍ من الجهد.“و شنو يعني؟” لا تسأل عن المعنى كما يوحي ظاهرها، إنّها تنسف المعنى بإعلانٍ خفيٍّ بأنّ ما فعلتَ لا يستحقّ الالتفات.
هكذا وُلِدت هذه العبارة في حياتنا اليومية، وباتت تكبر مع كلِّ منجزٍ جديد، وتطارد كلَّ فكرةٍ تحاول أن تنهض من الركام.
في كلِّ مجتمعٍ تتشكّل طبقاتٌ ثلاث أمام أيِّ عمل: الأولى تُصفّق، والثانية تُنصف، والثالثة تهمس “و شنو يعني؟”.
تلك الطبقة الثالثة هي الأخطر، فهي لا تُطلق رصاصاً وإنّما شكّاً في النوايا وفي القيمة وفي الأثر، فتحطّم الهِمَم وتُلغي قيمة الإنجاز كحدثٍ عابر.
وحين تصبح الكلمة المعيارية “و شنو يعني؟”، فنحن أمام خطرٍ معنويٍّ أشدّ من العجز نفسه، ذلك لأنّ هذا التساؤل يتجاوز ظاهرَه إلى نزع المعنى من الفعل، كمن يقول: ما الجديد؟ أَلَمْ يفعل غيرك أكثر؟ أليست الحياة تمضي سواء أَنجزتَ أم لا؟إنّها فلسفة “الإلغاء” في أبسط صورها، فالأمر لا يحتاج إلى مقالٍ أو خطبةٍ، يكفي أن تُقال تلك الجملة بوجهٍ متحمّسٍ ليتراجع عن اندفاعه أو أمام فكرةٍ مبدعةٍ لتخبو قبل أن تُولد.
سياسياً أيضاً باتت جزءاً من يومياتنا: “و شنو يعني جسر؟”، “و شنو يعني مصنع؟”، “و شنو يعني طريق؟”، “و شنو يعني مؤتمر؟”….هذه الظاهرة تغذّي سلوكاً جماعياً يميل في الغالب إلى إلغاء الآخرين لتثبيت الذات أو للمنافسة، ولا يقتصر الأمر على السياسة، بل يشمل جميع المنجزات في الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية.
يحتاج المجتمع إلى مَن يقول: “الله يساعدك”، أكثر ممّن يقول: “و شنو يعني؟”.
فالكلمة الأولى تبني جسور الاعتراف، والثانية تهدمها، الأولى تمنح شعوراً بالانتماء والثانية تزرع الغربة داخل المنجز نفسه. ومن المؤلم أن نرى كيف تحوّلت الكلمة إلى سلاحٍ غير مرئيٍّ يستخدمه البعض لتخفيف وطأة تفوّق الآخرين عليهم، فيسحبون منهم بريقهم بكلمةٍ واحدة.
ربّما كان من قالها أوّل مرّةٍ لا يقصد الأذى لكنّه فتح باباً لثقافةٍ خطيرة: ثقافة تقزيم الفعل وتحويل النجاح إلى أمرٍ عاديّ.وهكذا، بدل أن تتحوّل قصص النجاح إلى أمثلةٍ تُروى، أصبحت تُقابَل بالسخرية الصامتة أو بالتقليل المبطّن.
إنّ أخطر ما في هذه الظاهرة أن تكون مرآةً لعقلٍ لا يحتمل نجاح الآخرين، ونغمةً تُغنّيها الألسن التي فقدت الثقة في الإنجاز.ومع ذلك، يبقى الردّ الحقيقي عليها بالاستمرار في العمل والنجاح، لأنّ المعنى الحقيقي لأيِّ منجزٍ يُقاس بما يتركه بعد أن يُقال كلُّ شيء.